وعى أصحاب الفكر، أهمية الأفكار والعلم والآداب، وقدرتها على فتح آفاق عظيمة أمام الانسان الفرد ثم المجتمع، لتأسيس حياة تقوم على الحداثة، ولها القدرة على التجدد الدائم، لتواكب ما يحدث من قفزات في العلم والفكر على المستوى العالمي، لذلك لم يغفل الدعاة العظام، والأئمة الكرام (ع)، ومنهم سيد البلغاء الامام علي بن ابي طالب هذا الدور العظيم للفكر في تطوير الانسان فردا كان او أمةً.
فعندما يقول علي بن ابي طالب عليه السلام: (الْعِلْمُ وِرَاثَةٌ كَرِيمَةٌ والْآدَابُ حُلَلٌ مُجَدَّدَةٌ والْفِكْرُ مِرْآةٌ صَافِيَةٌ)، فإن مكانة العلم تكون واضحة للجميع، كما أن الآداب تتجدد لتقدم الى الناس في حلل وثياب جديدة، قوامها اللغة النابضة بالمعاني والمضامين العميقة، ليأتي بعد ذلك قمة التأثير لهذه المقولة عندما يتعلق الأمر بالفكر، حيث يختصر عظمة الكلمات وتأثيرها الفكري الكبير في الآخر، فالفكر هنا هو الوسيلة الأعظم والأكثر قدرة على تغيير مسارات الفرد والأمة باتجاه التجديد الأصحّ والأحسن.
لقد وعى أجدادنا ماهية الفكر، ومزاياه الكبرى، وتعاملوا معه بما يليق بأهميته، وقدموا لنا عصارة تلك الافكار في قوالب لا تقوم على التنميط، بل تمتلك ميزة الانبعاث والاشعاع لتترك تأثيرها في الآخرين، ولهذا قيل عن كلمة أمير المؤمنين عليه السلام بأنها تحمل في طياتها، احدى أكبر وأهم قواعد الحياة الانسانية الراسخة، لكونها ذات طابع فكري قابل للتجدد وغير خاضع للثبات، بما يعنيه من قدرة على مسايرة الأزمنة والعصور وما يستجد فيها، وهو ما نلمسه بصورة فعلية في المضمون الذي تطرحه مقولة الامام (ع).
فهي كما يلاحظ المتابع الحصيف، قمة في الوضوح، وذات سمة موسوعية شاملة، حيث أعطت المكانة الصحيحة والأهمية البالغة لكل من (العلم، والآداب، والفكر)، وإن رجحت بالنتيجة كفة الفكر باعتباره المرآة التي لا يمكن الاستغناء عنها، فقد ورد فيها العلم والأدب والفكر، وهذه الركائز الثلاث تمثل أهم الدعامات التي انبنى عليها الوجود البشري النظري والعملي، حيث العلم بوابة الانسان نحو التطور والابتكار واجتراح الوسائل التي تجدد أنماط الحياة على نحو دائم، فالعلم كما هو متفق سبيل الامم نحو الارتقاء، لذلك وصفه الامام عليه السلام بأنه وراثة كريمة، وهو أسمى من الاموال العينية والمنقولة، لأن العلم الموروث يؤدي الى تحسين الانتاج كما ونوعا من خلال تطوير الذات ومواهبها وكفاءتها.
الفكرة مرآة مفتوحة الآفاق
إن السمات الواردة في المقولة أعلاه، قدمت لنا ثلاث ركائز متقاربة في الهدف، لكنها منحت الفكر مستوى أعلى عندما جعلته بالنتيجة مرآة لنا، كي نرى من خلالها الحقائق الخفية ونكتشفها، كما أن المرآة تفتح لنا آفاق مرئية جديدة في ميادين الفكر، وبهذا يكون حامل العلم كريما يتمثل كرمه بعلمه الذي يتيح له الاكتشاف والابتكار وتطوير الحياة، وهو امر لا يعود بالفائدة على صاحب العلم فحسب، بل على أناس كثيرين يستفيدون من علمه.
وثمة علاقة ترابط وثيق بين الأدب والفكر، فما فائدة أن نتلقى الأجناس الأدبية وأشكال الكتابة الابداعية، كالقصة والشعر والرواية والنقد، اذا لم تحمل لنا هذه الأجناس الادبية أفكار جديدة تسهم في تطوير الانسان، لذلك كان هناك تركيز كبير على أهمية الفكر عندما يتم تقديمه في أشكال ادبية محببة الى النفس والعقل فالآداب تعدّ بمثابة الحلل المجدَّدة كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام، والتجديد هنا يشمل ذات الانسان الشاملة، حيث تجديد العقل والفكر والرؤية الى الحياة وكيفية التعامل معها، فضلا عن تطوير السلوك بروحية قابلة للتجديد دائما، فهناك بالنتيجة نوع من الترابط بين الفكر الحديث وبين الأشكال الأدبية ذات الاطار الجميل والمتجدد.
كذلك تتضمن هذه المقولة، اشارات مهمة وتركيز عال حول تطوير الانسان لذاته والأمة لنفسها من خلال تحديث الأفكار، لأن تجديد الذات أمر غاية في الاهمية، فما بالك عندما يكون الأدب هو وسيلة تطوير الانسان، وتلوين حياته بما هو افضل واجمل في الشكل والجوهر؟، وهكذا تكاد ركيزة الادب تضاهي العلم من حيث قيمتها الجوهرية في بناء الفرد نفسيا وفكريا، أما الحلل فهي الشكل والجوهر الجمالي للاداب، وعندما ينعكس ذلك في ذات الانسان يصبح ذا شخصية مائزة متطورة ومبدعة في الوقت نفسه، واذا كان المجتمع كله ذا شخصية متطورة، فإن الانتقال من الجهل الى رحاب النور يصبح امرا واقعا، وهذا الامر تحصيل حاصل للتمسك بالعلم والادب، ولكن من الجدير بالذكر أن يتم تقديم العلم والأدب من خلال الفكر الراقي، وهذا يستدعي بطبيعة الحال تغليف الكلمات العلمية والأدبية بغلاف فكري متجدد فضلا عن العمق الفكري الحديث للأشكال الأدبية، والكتابات العلمية.
في المقولة وردت ثلاث ركائز، ولكن ركيزة الفكر المتجدد هي حجر الزاوية الذي تقف عليه أهمية الكتابة الفكرية وحتى الابداعية، لذلك جاءت ركيزة الفكر في المرتبة العليا بالنسبة للعلم والأدب، فقد جاء وصفها في نهج البلاغة دقيقا، حيث الفكر مرآه صافية، تعكس الاشياء بدقة متناهية ووضوح تام.
الانتقال الى العصر المدني
لم تكن رحلة الانسان سهلة أبدا، بل هي شاقة وعصيبة، تخللتها المتاهات والحروب والعواصف وموجات الاقتتال الهائلة، ومع مرور القرون وتواليها بدأ الانسان يتعلم من نفسه وتجاربه، واستخدم في ذلك وسائل الفكر المتجدد، فنجح الدعاة والعلماء والمفكرون الخالدون، وأسسوا لقواعد فكرية استطاعت ان تنعش حياة الانسان وتنقله من مرحلة الحياة العشوائية، حيث كان مطارَدا من الحيوانات المفترسة، ومطارِدا للحيوانات القابلة للأكل بعد الشواء، بعد ذلك بدأت المرحلة الاجتماعية، ثم المجمعات السكنية الكبيرة، ثم الفلسفة والعلم والادب، كل ذلك تم تقديمه ضمن وعاء فكري قابل للتجدد وهذا هو ديدن الفكر الذي يمثله المعنيون بأنه أفضل وسيط ناقل لما يدور في اذهان الناس ومن ثم تطبيقها على ارض الواقع.
في خلاصة الكلام، نقول ان الفكر هو الذي ساعد الانسان على الانتقال من مراحل التوحش الى التمدّن، ومن ثم تحسين الحياة من خلال بث الافكار الجديدة التي كان لها قصب السبق في رفع قيمة الانسان، وتوفير السبل الحديثة لحياة افضل، قابلة للتنمية والتطوير بشكل مستمر، فضلا عن كونها مهيأة لمواكبة ما يستجد من أفكار محدّثة تتماشى وروح الواقع، وتحاكي نبض الواقع.
لقد استطعنا أن نعثر على المزيد من المعاني الفكرية المتجددة في مقولة سيد البلغاء (ع)، وهي قادرة على الاسهام في نقلنا الى العصر المدني دائما، وذلك من خلال قراءة متأنية باحثة عمّا وراء الظاهر، قاصدين العمق الفكري لهذه الكلمة، فقد رأينا أن هذه الكلمة تنطوي على الركائز الاهم في بناء النفس والمادة معا، العلم، الآداب، الفكر، وكل ركيزة من هذه الركائز الثلاث وصفها الامام علي عليه السلام بوصف يوحي بعمقها وقوتها وتأثيرها تماما، أما اذا اجتمعت هذه الركائز والصفات في ذات الانسان، فإنه لا ريب سيمثل عنصر التطور والارتقاء، ليس على الصعيد الفردي الذاتي، بل على الصعيد المجتمعي ككل، وهذا يعني أن الأفكار تبقى تتصدر الوسائل والأساليب القادرة على تجديد حياة الأمة وجعلها أفضل وأرقى بما يتناسب مع مكانة الانسان وقيمته وحرمته وكرامته وحقه الدائم في العيش في مجتمع مدني في قمة الارتقاء.
اضف تعليق