ربما تكون صدمة كبيرة للمواطن العراقي في خضم الأزمة المالية وهو يسمع خبير اقتصادي عراقي يتحدث عن حجم التكلفة الباهظة التي يتكبدها الاقتصاد العراقي بسبب وجود جيش جرار من الموظفين الحكوميين، فقد كشف الخبير عدنان الكناني، بأن حوالي 4.5 مليون موظف – من العسكريين- يتقاضون رواتب تقدر بحوالي 51 ترليون دينار عراقي، بما يعادل 42 مليار دولار سنوياً.
رغم مرور 13عاماً على تشكيل النظام السياسي الجديد، ما يزال اقتصاد العراق متأرجحاً بين الرأسمالية واقتصاد السوق، وبين الاشتراكية واقتصاد الدولة الذي كان ضمن منهج النظام البائد لفترة من الزمن، فحتى سياسة الانفتاح التي انتهجها النظام الجديد على العالم، لم تشفع للاقتصاد العراقي المنهار والمدمر بأن يجد عوامل البناء والنهوض من جديد، وما حصل؛ ايجاد حلول ترقيعية للوضع المعيشي للناس، وتجاهل الوضع الاقتصادي والبنية التحتية له، وبات الشعور لدى عامة الناس، بأن اذا كانت الرواتب جارية والاسعار معقولة والقدرة الشرائية متاحة تضاف اليها المنح المالية والحوافز وغيرها، فان اقتصادنا بخير!.
بيد أن الحقيقة التي أدركها الناس متأخرين، بأن سكوت الدولة على الوضع الاقتصادي في السنوات الاولى من السقوط، لم يكن لاطمئنانهم على سلامته وسلامة مصلحة الشعب العراقي، وإنما لسلامة مصالح رجالات الدولة من نواب و وزراء ومسؤولين متنفذين بفضل الايرادات المغرية من تصدير النفط والاسعار المرتفعة آنذاك، حتى تجاوز سعر البرميل عتبة المئة دولار.
وقد لفت المراقبون ظاهرة جنوح الانظمة السياسية في بلادنا "الشرق أوسطية" الى اقتصاد السوق المفتوح هرباً من الانسداد الاقتصادي والفشل في تقديم النموذج الصالح، اكثر مما هي النية في التطوير، لذا عجزت معظم تجارب أسواق البورصة في الخليج ومن ثم في ايران – على سبيل المثال- عن تحقيق التقدم الاقتصادي المطلوب ومواكبة التطور السريع في عالم الانتاج والابداع والتسويق، والنتيجة؛ بقاء عصب الاقتصاد في العقلية الحكومية، فيما تمسي اسواق البورصة مكاناً لجني الارباح والاثراء التي تأخذ احياناً شكل المغامرة، فصاحب رأسمال يفكر بأرباحه قبل ارباح الشعب واقتصاد البلد.
ولعل هذا تحديداً ما جعل مفهوم "القطاع الخاص" غامضاً لدى الكثير من اصحاب رؤوس الاموال الصغيرة والكبيرة والطامحين لخوض غمار المنافسة في سوق العمل والانتاج، ففي العراق –مثلاً- كما في بلدان اخرى، تعمل المصانع والشركات التجارية والمصرفية تحت شعار القطاع الخاص، ولكن؛ نجد ان مفتاح نجاح هذا القطاع ليس بيد صاحب المشروع ولا العمّال والمهندسين والمبدعين، وإنما بيد الوزير او النائب او المستشار او المدير العام وهكذا.
بمعنى أن المشكلة لا تُحل بمجرد وجو القطاع الخاص، وإنما في القوانين والتشريعات ومن ثم الثقافة العامة التي يجب ان تغير وجهتها بحثاً عن عامل القوة والتأثير، من المسؤول الحكومي، الى عامة الناس، كما هو الحال في الغرب، حيث يرتكز النجاح على المستهلك وردود فعله وتفاعله مع المنتج، لذا نجد الحرص على إرضاء الزبون وعدم خداعه او تضليله.
ومن أبزر المصاديق على فقدان القطاع الخاص هيبته في المجتمع، التهميش القانوني لما يفيد العامل والموظف، فالذي يجذب الناس نحو الوظيفة الحكومية، كونها تمثل ضماناً حقيقياً للمستقبل في ظل نظام التقاعد، علاوة على الثقة العالية التي توليها المصارف بهذا الموظف لتقديم القروض لبناء الدور وشراء السيارات وغيرها، وقد ذهبت بعض البلدان الى شمول القطاع الخاص لبعض الامتيازات المغرية، مثل تشريع قانون للضمان الصحي للعاملين في الشركات والمصانع الاهلية، بيد أن هذا يأتي بثماره الطيبة، كون تجربة الضمان بمختلف اشكاله، تحول الى كابوس على اصحاب رؤس الاموال، لانها تحوله الى ضحية بشكل جديد للاقتصاد الحكومي، فيكون هو الخاسر الوحيد الذي يجب عليه الدفع المستمر الى شركات الضمان والتأمين، فيكون هذا القطاع بين خيارين؛ إما البحث خلسة عن موظفين وعمال "في السوق السوداء" من العمال الاجانب – مثلاً- للتخلص من إلزامات الضمان، او تحميل هذا العبء على العامل نفسه واقتطاع نسبة معينة من راتبه الشهري، والخياران كلاهما مضر بالاقتصاد والاجتماع في آن واحد.
أما الحلّ الامثل الذي كثر عنه الحديث منذ اكثر من اربعة عشر قرناً من الزمان، في إطلاق حرية العمل والانتاج للجميع، وبدلاً من تشريع القوانين المعوقة لهذه المسيرة، التفكير في حماية المشاريع الاقتصادية الصغيرة ودعمها قانونياً ومادياً وحتى معنوياً، وهذا ما استفادت منه الدول المتقدمة اقتصادياً في عالمنا الثالث مثل الصين والهند وكوريا الجنوبية وغيرها، فالدولة ليس فقط تدعم، وإنما تبحث عن الطاقات الشابة والمبدعة ورؤوس الاموال الحائرة لتحويلها الى مشاريع منتجة، يكون الهدف منها ليس فقط الربح المادي، وإن كان هو المطلوب، بيد أن الهدف المعنوي بل والحضاري هو الذي يضعه الرجل والمرأة والشاب العاملين في ورشهم الصغيرة، نصب أعينهم، وهي أن تكتب على منتجهم البسيط، مثل العاب الاطفال او الادوات المنزلية والملابس وغيرها، "صنع في...." وإذن؛ فهو مساهم في تقدم اقتصاد بلده، ويعد نفسه عنصراً مؤثراً وحجرة مهمة في الهرم الاقتصادي الكبير.
اضف تعليق