في وقت تطبق الأمية والحرمان والتبعية على شعب من الشعوب، وتجعله سليب الكرامة الانسانية، يكون التحرك بعكس الاتجاه بمنزلة الشرارة المضيئة التي تمزق الصمت والسبات وتزيل عن النفوس ركام اليأس من التغيير. هكذا كان موقف المرجعية الدينية في عهد المجدد الاول وزعيم الحوزة العلمية في حينها الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي – قدس سره- الذي قاد لأول مرة في التاريخ الشيعي الحديث، حركة تمرّد انطلاقاً من الحوزة العلمية، على أوامر سلطة عليا ونظام سياسي يُعتد به، مثل نظام الحكم القاجاري، الذي كان حينها يحكم ايران، لكن ليست على هذه الخارطة الموجودة، إنما على مساحات واسعة اخرى تشمل أجزاء من اذربيجان الروسية وآسيا الوسطى الى جانب النفوذ القوي في العراق.
لذا فان ما حصل بين الملك القاجاري "ناصر الدين شاه" وبين بريطانيا وبيعه امتياز زراعة وانتاج التبغ الايراني، وبينه وبين المرجع الشيعي الاعلى في زمانه، ليست مجرد فتوى تحريم التبغ ثم تراجع الشاه عن الاتفاقية وانتهى كل شيء، إنما القضية لها أبعاد اجتماعية ونفسية وسياسية واسعة، ربما خير من يدرك هذه الحقيقة، البريطانيون أنفسهم.
بالرغم من أن إيران كانت في القرن التاسع عشر ذات تُحظى بنظام حكم مستقل ولها أرض وسيادة وحدود ومؤسسات دولة كاملة، بخلاف الدول العربية التي كانت تُدار مباشرة من قبل ضباط الجيش البريطاني، مع ذلك؛ فقد كان البريطانيون موجودون في كل مفاصل الدولة الإيرانية ومؤسساتها، بحيث كان من السهل على السفارة البريطانية شراء ذمة أي مسؤول في الدولة بكل سهولة. يُضاف الى ذلك التأثر الشديد للملك الايراني بالحضارة الغربية، وبالذات بريطانيا، لذا أعدّ البريطانيون ذات مرة زيارة خاصة له ليطّلع عن قرب على طبيعة الحياة هناك.
وباعتقاد المؤرخين والباحثين فان هذا النوع من الرحلات في تلك الفترة كانت ضمن المخططات الاستعمارية، حيث يستدعون الملك او الرئيس او حتى الشخصية الفكرية والثقافية المؤثرة، أو يفسحون له المجال للسفر ومغادرة بلاده الى الغرب، ليطلّع هناك على التطور التقني ونظام الحياة السائد هناك، وايضاً طريقة حياة الناس، وبما أن المسيرة المتصاعدة للثورة الصناعية تركت آثارها الايجابية على حياة الانسان الغربي، ووفرت له العيش الرغيد بنسبة عالية، حيث تحسنت شروط العمل وظروف الحياة العامة، مثل السكن والمواصلات والخدمات العامة وحتى بعض وسائل الترفيه، مثل السينما وغيرها. وهذا بحد ذاته يجعل الحياة الغربية في عيون الزعيم المشرقي، بمنزلة المنظار اللاصق الذي ينظر من خلاله طول حياته، وليس فقط خلال زيارته القصيرة الى الغرب.
لذا كان الملاحظ دائماً عمق الفاصلة بين النخبة السياسية وحتى الثقافية، وبين الجماهير، وفي الحالة الايرانية، كانت القضية أشد وطأة على جماهير الشعب الايراني حيث كان يكابد شظف العيش مع تخلف في مختلف نواحي الحياة، ومن جملة الشرائح المتضررة، شريحة المزارعين والفلاحين في ايران، فقبل أن يفكر بحقوقه وكرامته وشخصيته، كان يفكر بتوفير لقمة العيش، وهذا ما جعل الحاكم الأوحد، يعمّق حالة من العبودية في نفس المزارع الايراني، علماً أن هذا المزارع، كان – على الأغلب- أجيراً وتابعاً لشريحة الملاكين واصحاب الاراضي والرساميل، قبل أن يكون عبداً للملك، إذ كان الاخير يُحظى بسمات مقدسة عند الشعب الايراني بشكل عام، فكان يُلقب بـ "ظل الله"، أو "قبلة العالم" وغيرها من الالقاب المستعارة والوهمية.
هذا الواقع المزري هو الذي بعث الاطمئنان في نفس "ناصر الدين شاه" لأن يذهب بعيداً في علاقاته مع بريطانيا ويوافق على اتفاقية يبيع بموجبه ثروة زراعية كبيرة من بلاده مقابل حفنة من الليرات الذهبية الانجليزية، فهذه الاتفاقية كانت تقضي بأن يكون المزارع الايراني عبداً وأجيراً عند صاحب الأرض والمستثمر البريطاني، فهو الذي يحدد أجرة العمل وظروف حياة المزارع، فضلاً عن طريقة تسويق المنتوج والتلاعب بالأسعار والتحكم بمادّة اقتصادية لها رواج كبير في المجتمع آنذاك، وهي التبغ التي تسمى في ايران "الدخانيات".
تم عقد الاتفاقية بين الشاه وبين شركة "تالبوت" البريطانية على احتكار زراعة التبغ في ايران عام 1890م ولم تمض فترة وجيزة حتى استشعر الناس وطأة الحياة في ظل اليد الاجنبية عليهم، وحسب المصادر التاريخية فان مدينة تبريز شمال ايران، كانت تُعد محور النشاط الزراعي للتبغ، فتحولت الى بؤرة للتمرد وانطلاق الشرارة الاولى للرفض الجماهيري لهذه الاتفاقية المذلّة، وقد جرت فعاليات عديدة عبّرت عن حالة الرفض والتمرد، وبلغ الامر الى طهران والى أسماع الشاه، فأمر بالقمع واستخدام القبضة الحديدية على أمل إرعاب الناس واسكاتهم وإخضاعهم للأمر الواقع، بيد أن وطأة الذل والمهانة التي استشعرها الايرانيون بسبب هذه الاتفاقية أبقى الناس في حالة من الغليان والغضب، للمطالبة بإلغائها.
هنا؛ كان لابد للناس من منقذ ونقطة ضوء ينفذون من خلالها الى عالم الحرية والكرامة، فكان اللجوء الى المرجعية الدينية العليا والتي كانت حينها في سامراء متمثلة بالمجدد الاول السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي – قدس سره- لاستثمار العلاقة الوطيدة والعميقة بين علماء الدين والمجتمع، وهي العلاقة التي كان يهابها السلطان، ويجهلها الاستعمار آنذاك. فكان الاستفتاء على مشروعية عمل انسان مسلم وموالي لأئمة أهل البيت، عليهم السلام، وكذا سلب أراضي المسلمين وإعطائها لغير المسلمين، فكان الجواب في الفتوى الشهيرة: "العمل وفق الاتفاقية المذكورة.... بمنزلة محاربة الامام صاحب الزمان"!
وكان ما كان من آثار هذه الفتوى على الشارع الايراني، وكانت البداية في انسحاب جميع المزارعين من العمل في حقول التبغ، ثم امتناع الناس والاسواق الايرانية عن شراء واستخدام التبغ المنتج بريطانياً.
وهنا نقطة هامة جديرة بالتأمل في تاريخ الثورات الجماهيرية؛ فكل حركة تغيير، تتطلب ثمناً وضريبة حسب حجم التغيير والظروف الموجودة، وفي المقدمة تأتي قضية التضحية بالمال والوضع المعيشي والتغاضي عن كثير من الامور وتحمل الصعاب والمشاق في الحياة لتحقيق الاهداف المرجوة. وهذا ما صنعه الشعب الايراني في القرن التاسع عشر، عندما رأى التفاعل وتحمل المسؤولية من لدن القيادة المرجعية. وبذلك تمكن من كسب قصب السبق على جميع الشعوب العربية والاسلامية في التصدّي للانحراف والفساد في النظام السياسي الحاكم، ويثبت وجوده الفاعل في الساحة.
بل يمكن القول أن هذه الانتفاضة الجماهيرية، هي التي ساعدت على إنضاح الوعي السياسي أكثر مع حلول القرن العشرين، عندما واكب المرجعية الدينية في نهضة أخرى اكبر تأثيراً على الواقع السياسي والاجتماعي، ألا وهي ثورة الدستور عام 1905م، عندما أجبر الشعب الايراني بوعيه وبقيادته المرجعية، السلطان والملك القاجاري المتغطرس، على التخلّي عن كثير من صلاحياته للشعب لأن يقرر مصيره ويشارك في صنع القرار، والنتيجة كانت في تشكيل أول مجلس نواب (برلمان) في العالم الاسلامي.
اضف تعليق