تقدم القوات المسلحة العراقية المؤلفة من الجيش والحشد الشعبي وقوات النخبة نحو تحرير مناطق واسعة في الانبار من سيطرة "داعش" يثير التساؤل القديم والجديد عن مدى انعكاس هذه التطورات الايجابية في الميدان على الوضع السياسي والاجتماعي ثم الامني في عموم البلاد، وما اذا كان بالامكان تحقيق الأمل المنشود بالتوصل الى ما يُعرف بـ "مصالحة وطنية" بين الشيعة والسنة على وجه التحديد؟
فقد بات واضحاً للمراقبين في الداخل إن اهم وابرز اهداف الظهور المفاجئ والقوي لـ "داعش" في العراق قبل حوالي عامين، هو القضاء على أي محاولة للتقارب بين مكونات الشعب العراقي، بدعوى أن هذا "التنظيم" هو الاقرب الى طموحات المكون السنّي بالحصول على مطاليبه التي لم يحصل عليها بصورة طبيعية من الحكومة المركزية. وهذا ما خلق في الواقع الاجتماعي العراقي حالات غريبة غير معهودة، عندما بات شخص قادم من الشيشان او من المغرب العربي او من أي مكان آخر ويتحول لديهم الى ابن مدلل يعطى كل شيء؛ المأكل والملبس والمأوى، على أن يكونوا لهم اليد الضاغطة على المسؤولين في بغداد لينفذوا لهم ما يشاؤون.
بيد أن معطيات الاحداث خلال فترة وجود هذا التنظيم التكفيري – الدموي، أكد بما لايقبل الشك لابناء المكون السني اجتماعياً، وليس سياسياً، بانهم تعرضوا لخيبة أمل كبيرة وانقلب الامر عليهم سلباً ودماراً قبل ان يكسبوا شيئاً من الحكومة العراقية، ولعلهم يكونوا نادمين جداً وهم يرون الدمار الهائل الذي حلّ بالجامعات والمساجد والدور والمباني الحكومية والخدمية، التي تبين الصور أنها شُيدت قبل أشهر من دخول داعش مناطقهم، ثم تحولت الى مسرح للقتال والدمار من أجل لا شيء.
وبغض النظر عن ظروف وملابسات ظهور هذه الجماعة الارهابية وبهذه القوة العسكرية العجيبة في العراق، لان الامر يرتبط بمصالح خاصة ، لإكمال مشهد المواجهة الدولية مع هذا التنظيم في العراق وسوريا، فان بقاء التوتر في العلاقة بين المكون السنّي وبين الدولة العراقية بشكل عام، كان يمثل – وما يزال- مطلباً اقليمياً ملحّاً، وتحديداً من تركيا والسعودية، وقد تجلّت هذه النوايا بشكل جليّ في التصريحات الاعلامية للسفير السعودي في بغداد، فما قاله عن الحشد الشعبي ودوره في تحرير المدن السنية من سيطرة داعش، يُخيل الى السامع بانه يستمع الى أحد النواب او الشخصيات العراقية من تلك المناطق، وليس من سفير دولة السعودية، الذي يفترض ان يكون ضمن سياقات دبلوماسية ومهام معروفة. وربما تكون مهمته الاساس من الرياض، أن يملأ الفراغ الذي تركه الساسة السنة في الساحة الاجتماعية والسياسية، بعد أن باتوا مجرد صوراً واسماء بلا روح وتأثير في محيطهم الاجتماعي.
طبعاً؛ السفير السعودي ليس وحده في الساحة العراقية، إنما هنالك الماكنة الاعلامية الجبارة التي تغذيها ملايين الدولارات وامكانات عالية، الى جانب الدعم السياسي والمعنوي الذي تضخه السعودية (الجارة الجنوبية) وتركيا، (الجارة الشمالية) ومعها اطراف اخرى معنية بدعم المكون السنّي وتوجيه اكثر الضربات تأثيراً للمكون الشيعي في الوقت نفسه.
وبعيداً عن لغة السياسة والاعلام، فان لغة الحقائق على الارض تؤكد بالأدلة والبراهين، أن المجتمع السنّي، مهما يتصور البعض أن متورط سفك الدماء وانتهاك الاعراض، ولا أمل بالعودة الى ما كان عليه قبل تاريخ 2003، إلا ان الجذور التاريخية والثقافة الاجتماعية وعوامل اخرى تجعل مسألة الاحتراب والاقتتال بدوافع طائفية بحتة، امراً مفروضاً ولا أساس له في وجدان وضمير هذا المجتمع. نفس المعادلة حاول تكريسها البعض على الشعب العراقي بشكل عام، في عهد الطاغية صدام، عندما بدأ البعض بالتحدث عن الخيبة واليأس من هذا الشعب بعد ان توغل في الدماء والانتهاكات الفجيعة في حربين مفروضتين؛ الاولى على ايران والاخرى على الكويت. ولكن ما أن انجلت الغبرة حتى انقشع غيوم التضليل والتزييف للحقائق الانسانية، وتغيرت الصورة تماماً في ايران والكويت عن الانسان العراقي.
من هنا نفهم أن المصالحة الوطنية التي يفترض ان تجمع مكونات الشعب العراقي، وفي المقدمة، السنة والشيعة، ليست بالصعوبة التي يخالها البعض انما المشكلة سياسية بامتياز. لذا يمكن القول بأنه حتى القضاء على داعش في الاراضي العراقية، كما بشّر بذلك وزير الخارجية الاميركي لن يكون سبباً في ازالة العقبة الكأداء امام مصالحة حقيقية وعودة للأمن والاستقرار في العراق، فيما اذا استمر التجاذب السياسي على السلطة في بغداد تحت شعار "الاصلاحات"، فقد بات واضحاً لكثير من المراقبين، أن "دوامة الاصلاح" التي دخل فيها المكون الشيعي في اطار "التحالف الوطني" الحاكم، تمثل نقطة ايجابية للرموز السياسية السنية التي أخزاها الافلاس السياسي والاخلاقي منذ استيلاء داعش على الموصل والانبار، واستمرار.
فاذا كانت هنالك نواياً حقيقية وصادقة للإصلاح، يجب ان يكون جزءاً منها باتجاه المكون السني بتوجيه رسالة واضحة ومتكاملة بأنهم لن يعيشوا الامن والاستقرار في ظل مصالح سعودية او تركية او اجنبية اخرى، كما ان تعرض الشيعة لمزيد من التضعيف والضغوط، لن يخدمهم بالمرة، لانهم سيزدادون قوة وثباتاً وعزيمة منطلقين من اسس متينة في العقيدة والايمان، وسيواجهون التحديات مهما كانت، فيما يبقى المجتمع السنّي سبباً في عدم الاستقرار والدمار على طول الخط في العراق.
اضف تعليق