عندما تندلع شرارة صغيرة، سوف تقود الى حرائق كبيرة، اذا لم تتم معالجتها في وقتها، هذا الأمر بديهي ولا يحتاج الى ذكاء، ولكن معالجة الشرارة تحتاج الى ارادة وسعي وحكمة، هذا ما يعيشه العراق في اللحظة الراهنة، لقد اندلعت شرارة المظاهرات منذ اكثر من سنة، وانتقلت هذه الجمعة (يوم أمس)، الى مرحلة أعلى (الاعتصامات)، ما يعني أن الشرارة بدأت تكبر، وان مساحة النار بدأت تتوسع، وكلنا لاحظنا نوعا من عدم التعامل الجاد مع المطالب المطروحة.
إنها لحظة الخيار الحاسم للطبقة السياسية الحاكمة، مثلما هي لحظة الحسم بالنسبة للشعب العراقي، فقد أظهرت المظاهرات الشعبية تصميما على تطبيق (الاصلاح) ومكافحة الفساد، ومحاسبة الرؤوس المدَّنسة بالسحت الحرام وهي معروفة، بالوثاق والأدلة الدامغة، فلماذا هذا التقاعس في محاسبتها، ولماذا الخوف منها، ولماذا التسويف في معالجة الاخطاء الكبيرة، والبقاء في حالة التردد، فالكلام الذي يطلقه رئيس الحكومة كلام جميل وصحيح ومشجّع ومناسب للشعب، ولكن المشكلة في عدم التطبيق.
هناك عناصر في الاحزاب والكتل الداخلة في العملية السياسية تتضرر مصالحهم، في حالة تطبيق الاصلاح بصورة جادة، ولذلك دخل هؤلاء في حرب خفية ضد أية خطوة للتصحيح الجاد، فالطبقة السياسية كلها تدعو علنا وتصرح عبر وسائل الاعلام في بيانات تصدر عن الاحزاب والكتل والشخصيات، كلها تصرح وتدين الفساد، وكلها تدعو الى محاربته والقضاء على الفاسدين، وكلها تدعو الى تطبيق الاصلاحات الفورية وإنصاف الشعب، ولكن هؤلاء أنفسهم يعرقلون في السر أية خطوة في هذا الاتجاه.
ما يعني أن الأمل بالاصلاح بات أمرا بعيدا في ظل بعض هؤلاء السياسيين، كونه يقلل من امتيازاتهم ويفضح المتورطين منهم بالفساد، هذا الامر لا يروق لهم بطبيعة الحال، لذلك هم متشبثون بالسلطة بأقصى ما يمكنهم تحت حجج لا حصر لها، تبدأ بالاوضاع الامنية ولا تنتهي بالمتربصين بالتجربة الجديدة، أن بعض ما يُقال لا يبتعد عن هامش الحقيقة، ولكن هذا لا يعني أن يتم غض البصر عن الفساد والفاسدين، ولا يعني أن نترك نسبة الفقر تتزايد يوما بعد يوم فيما يتنعم السياسيون بأموال العراقيين من دون وجه حق.
كذلك هناك تدهور كبير في قطاعات التعليم والصحة وفي المجالين الزراعي والصناعي، وفي المجال الاداري، حتى باتت ظاهرة الفساد أمرا متفشيا بين جميع المؤسسات والدوائر الادارية، حتى تلك التي تتعلق برواتب الرعاية، حيث تشير معلومات موثقة الى حرمان مئات من المعوزين من مبلغ الرعاية الهزيل وتحويله (بالواسطة)، الى أقارب مسؤولين وما شابه، بحسب احدى القنوات الفضائية التي عرضت لقاءات مباشرة مع مواطنين قدموا وثائق حول هذا الجانب.
كفى فسادا وظلما
هل أعمت امتيازات السلطة المسؤول، لدرجة أنه لم يعد يخشى الله تعالى، أيعقل أن الامور تصل بالعراقيين الى هذا الحد، هذا البلد الذي يضم مراقد أعظم خلق الله من الاولياء الصالحين، اولئك الذين قدموا للبشرية دروسا عظيمة في الاخلاق وفي الحكم الرشيد، هل يعقل أن الطبقة السياسية الراهنة هي الامتداد الحقيقي لذلك السلف الصالح؟؟.
من الواضح أن خيار اللحظة الحاسمة بات وشيكا، إن لم يكن قد حصل فعلا، مع بداية انتقال المظاهرات الى مرحلة تصعيدية أعلى، وهي مرحلة (الاعتصامات)، في المقابل أظهرت كتلة دولة القانون نوعا من التسرع في التعامل مع الأزمة من خلال تصعيد نبرة المواجهة حيث بدأ الشارع يردد جملة رئيس كتلة دولة القانون (الرجال بالرجال والسلاح بالسلاح)، في اشارة الى مواجهة المعتصمين، الامر الذي زاد اوار (النار)، وجعل الشرارة تكبر أكثر فأكثر، وهذا ما لا ينبغي أن يحدث على الاطلاق، كونه ليس في صالح أحد، لا الشعب ولا الدولة ولا الطبقة السياسية الحاكمة او المشتركة في العملية السياسية.
وقد يتساءل كثيرون ما هو الحل الآن وهل هناك بوادر أمل تلوح في الأفق، أم أن الامور تتصاعد وتسير في اتجاه الانزلاق نحو مشكلة كأداء مجهولة الحدود والحلول معا؟، الحل في الحقيقة واضح، ولكنه يحتاج الى ارادة حقيقية للتطبيق ويحتاج الى عقول قمة في الحكمة، حتى لا تمضي بالامور نحو التصعيد، هنا بالذات ينبغي أن يبادر الجميع الى احتواء الأزمة بالحكمة، شرط الابتعاد عن التسويف وتأجيل الاصلاح.
وهذا يعني أن لحظة الحسم قد آن أوانها، وانها نضجت بل بلغت اقصى درجات النضوج أكثر من أي وقت كان، ولحظة الحسم المقصودة، ليس في مواجهة المتظاهرين بالسلاح والرجال، وإدخال البلاد في اتون الفتنة والاضطرابات والفوضى، بل مواجهة المعتصمين بالقرارات الاصلاحية الفعلية التي يمكن تُرى بالعين وتُلمس باليد، وهو أمر ليس مستحيلا فيما لو تم الاتفاق عليه بإرادة تنتصر ضد الظلم وضد الفساد في آن واحد.
من الواضح أن زمن التسويف قد ولّى، وأن اللعب على إضاعة الوقت لم يعد مجديا، وأن الأمل بإيقاف او إضعاف المظاهرات وتراجع الشعب عن مطالبه المشروعة بالاصلاح لم تعد مقبولة، خاصة أن شعب العراق يستحق أن يعيش مرفها كريما بعد عقود طويلة لحكومات ملكية وجمهورية تعاقبت عليه بأشد مظاهر القمع والظلم والفقر والطغيان، واليوم حانت لحظة تعويض هذا الشعب المظلوم، وليس معاقبته بظلم اكبر وفساد اكثر فتكا، تمخض عن حرق الأخضر واليابس ونشر الفقر اكثر فأكثر بين العراقيين الذين لا زالوا يأملون بخطوات واجراءات حازمة توقف انحدار البلاد نحو الدمار.
خيار اللحظة الحاسمة
في الخطوات الاصلاحية التي تحد من الفساد، وتحاصر رؤوسه الكبيرة، قد تكون هناك خسائر، ولكنها خسائر يمكن أن يتحملها الشعب والطبقة السياسية، أما اذا تصاعدت لهجة المواجهة بين بين الطرفين (الطبقة الحاكمة والمتظاهرين)، فإن الخسارة ستكون مجهولة الحدود، أي أنها قد تكون خسائر من النوع الثقيل الذي يعيد البلاد عقودا الى الوراء، ولابد أن يفهم الجميع وخاصة الطبقة الحاكمة، أن اول المتضررين سكون هذه الطبقة نفسها، فضلا عن التداعيات الخطيرة التي تطولا مجالات الحياة الاخرى.
اليوم في هذه اللحظة نحتاج الى قادة محنكين من طراز القادة الانسانيين الحكماء الكبار في عقولهم واراداتهم ونفوسهم، ليكونوا بمثابة المنقذين للشعب وليس السلاطين المتسلطين عليه، والحقيقة ان الطبقة السياسية بمقدورها اتخاذ الاجراءات الصحيحة، والسريعة والفاعلة التي تعيد الامور الى نصابها، لهذا ينبغي أن تسهم هذه العقول في اتخاذ (خيار اللحظة الحاسمة)، ويجب أن يكون خيار الاصلاح وليس خيار التصادم.
اذاً أزف هذا الخيار الحاسم، ولم يعد هناك مجال للعودة الى الوراء، او البقاء في محطة المراوحة والسكون في المكان ذاته، إننا ازاء مرحلة جديدة ينبغي أن تغير أوضاع العراق والعراقيين الى الأفضل بكثير، وهذه النتيجة مشروطة، بالعقلية والآلية والارادة التي تتعامل بها الطبقة السياسية (الكتل، الاحزاب، الشخصيات) المشتركة في العملية السياسية، وينبغي أن يكون الخيار الى صالح كرامة العراق وعزته وتطوره وليس الى العكس.
بالاضافة الى مراعاة شعبه وأهمية تعويضه من عقود الحرمان والعوز، فضلا عن أهمية انقاذ الفقراء واعادة خبز الكرامة لهم، وفي المقدمة من هذه الاجراءات، إلقاء القبض على رؤوس الفساد، واسترداد جميع الاموال المنهوبة، مع أنية أن ينال كل فاسد جزاءه العادل أمام الملأ، على أن تكون هناك خطوات حاسمة باتجاه تطبيق القانون بشكل حاسم، وعرض كل من يثبت فساده على الملأ ونعني الصفقات المشبوهة التي تثبت فيها التجاوز على المال العام.
اضف تعليق