لا يزال العراقيون يعيشون في بيئة متأزمة بمختلف جوانبها الامنية والاقتصادية والثقافية؛ فأزيز الرصاص هو الفاكهة المفضلة في نشرات الاخبار التلفزيونية وصفحات التواصل الاجتماعية، إذ يتحدث الكثير عن تفاني ابناء العراق في الدفاع عن وطنهم في مشهد تسوده انتصارات ابطال العراق من الجيش والقوات الامنية والحشد الشعبي على معسكر الارهاب والتكفير بلغة "تعبوية محلية خالصة" تفتقد الى من يسوقها الى العالم باسلوب احترافي في حرب اصبح النصر النهائي فيها لم يملك القدرة على كسب العقول والقلوب، لا سيما وان هناك الكثير من الدول التي تتربص بالعراق وقواته المرابطة على السواتر الامامية في المواجهة ضد داعش بل ان بعض الدول اصبحت وكأنها الناطق الرسمي باسم الجماعات الارهابية .
فدولة قطر تعادي الوضع السياسي القائم في العراق منذ سقوط صدام عام 2003 وحتى الان ، وقد ظهر ذلك العداء القطري في اكثر من مناسبة بتصريحات تكيل الاتهامات للحشد الشعبي تارة وللجيش تارة اخرى لتؤكد انها ماضية في مشروعها للإطاحة بالعراق كقوة لها ثقلها في العالمين العربي والاسلامي ، لكنها "اي قطر" ادركت منذ البداية انها دولة صغيرة عمرها الفعلي اقل من قرن واحد وهي تفتقد للكثير من وسائل القوة التقليدية وبالتالي لجأت الى استخدام السلاح الارخص والاكثر فعالية والمتمثل بالقوة الناعمة. فابتدأت بفتح قناة الجزيرة وخلال سنوات قليلة تحولت هذه القناة الى شبكة اعلامية كبرى تنتج نسبة مهمة من المحتوى المعلوماتي. ويتذكر اغلب العراقيين دور هذه القناة في تأجيج العنف الطائفي بالعراق في سنوات ما بعد صدام ووصل تدخلها في الشأن العراقي الى حد التطاول على الرموز الدينية والسياسية العراقية في اكثر من مناسبة .
وخلال سنوات قليلة اثبتت قطر نفسها كقوة اقليمية لها تأثير على قضايا عدة بواسطة قناة الجزيرة والمؤسسات الداعمة لها ، لكن يبدو ان قطر ماضية في طريقها نحو العالمية فقد أعلنت مجموعة (بي- إن) الإعلامية القطرية قبل ايام أنها استحوذت على استوديوهات "ميراماكس الهوليودية" ، وتشير بعض التقارير الى ان هذا الانخراط القطري في وسائل الاعلام الغربية يسعى إلى تكريس الامارة الخليجية نفسها كقوة إقليمية ناعمة في الشرق الأوسط، تساعدها في ذلك ثروتها المالية والبترولية، وتظهر ملامح هذه السياسة من خلال استثماراتها الهائلة في قطاعات الثقافة والإعلام والرياضة وكلها قطاعات تعمل على نشر صورة إيجابية عن الإمارة الخليجية الصغيرة.
هذه الحقيقة تكشف عن تحول كبير في قواعد الاشتباك بين الدول فلم يعد يقتصر الصراع على الارض بالمواجهات العسكرية المباشرة او تلك التي تحدث من خلال الصواريخ والطائرات المسيرة، بل اثبتت الوقائع ان التبارز العسكري قد يتأثر بشكل كبير بما يعرض على شاشات التلفاز او ما تنشره وسائل الاعلام الاخرى وقد يستطيع الطرف الاصغر عسكرياً التفوق على دولة اكبر منه بعشرات المرات وذلك من خلال الوسائل الناعمة، وبما اننا نملك طاقات اعلامية مميزة يمكنها انتاج خطاب مؤثر على مختلف المستويات يحقق لنا بناء قوة الردع الاعلامي الا ان تلك الطاقات مشتتة وتفتقد للإدارة والتوجيه نحو الهدف الصحيح؛ فطبيعة التغيرات المتسارعة في المنطقة والعالم تفرض الاسراع في بناء قاعدة رصينة للقوة الناعمة لدينا ، وفي هذا الاطار هناك ثلاثة مسارات رئيسة اذا استخدمت بشكل سليم فمؤكد انها ستسهم في سد الكثير من الثغرات وهي كالاتي :
المسار الاول يتمثل بتطوير القدرات الاعلامية التقليدية مثل الصحف والاذاعات والتلفزيونات مع التركيز على فتح شبكة اعلامية كبرى تعتمد على اساليب جديدة تتناسب مع لغة العصر، فلا يمكن ان تحقق مؤسسة اعلامية انتشارا واسعا مع التزامها سياسة تحريرية ضيقة لان الدلائل على ارض الواقع تؤكد ان تفوق المؤسسات الاعلامية الكبرى كان نتيجة لأسلوبها المتميز بطرح يعتمد على الشكل الجذاب والمضمون المتعدد الابعاد، وهذا المسار ليس صعبا مع ما يملكه العراق من امكانات مادية وبشرية تؤهله لذلك، وهناك الكثير من القنوات الاعلامية التي استطاعت ان تثبت نجاحا باهرا رغم حداثة تأسيسها مثل قناة روسيا اليوم التي بدأت بالبث العربي عام 2007 حتى انها باتت تقلق المسؤولين الامريكيين وقد اشاروا الى ذلك في اكثر من مناسبة .
المسار الثاني يتمثل بالدخول بقوة الى مجال الاعلام الالكتروني وهو فضاء واسع وسريع الانتشار والتأثير لا سيما و اننا نعيش اليوم في العالم الرقمي والهواتف الذكية؛ فحتى الصحف العالمية المرموقة ادركت اهمية الدخول في الفضاء الالكتروني منذ بدايات اكتشاف الشبكة العنكبوتية كما الغت بعض الصحف العالمية طبعاتها الورقية واكتفت بالنسخ الالكترونية مثل صحيفة الاندبندنت البريطانية التي اعلنت في شهر شباط الماضي الغاء طبعتها الورقية والاعتماد على النسخة الالكترونية فقط وتبعتها في ذلك صحيفة "الباييس" الإسبانية ذات الانتشار الواسع. وهناك الكثير من الصحف الاجنبية والعربية التي تتخذ من الفضاء الالكتروني ادة لعرض منتجها الاعلامي ولهذه الصحف جمهور كبير جدا ، وبالتالي فان العالم الرقمي اسهل طريق نحو العالمية لما يتميز به من قلة التكاليف وسعة الانتشار.
المسار الثالث يتمثل بالدخول في السوق الغربية لصناعة الاعلام وشراء اسهم في بعض المؤسسات الاعلامية لما لتلك المؤسسات من تأثير كبير على مختلف اوجه النشاطات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كما يمكن الدخول لعالم السينما الغربية التي اسهمت بشكل كبير في رسم الصورة عن الكثير من شعوب العالم سواء كانت سلبية ام ايجابية ، ويؤكد الخبراء الاقتصاديون ان الدخول في شراكات جزئية او شراء مؤسسات اعلامية غربية بأكملها يدر ارباحا مالية ضخمة فصحيفة الإندبندنت البريطانية بيعت في العام 2010 للملياردير الروسي، أليكسندر ليبيديف ((بجنيه استرليني واحد)) بل دفعت الشركة الإيرلندية التي كانت تديرها مبلغ 9,25 مليون جنيه استرليني لأليكسندر ليبيديف والسبب هو أنّ الصحيفة كانت تواجه خسائر مالية كبيرة ولا يمكن إغلاقها، لأنّ ذلك يعني دفع تعويضات للعاملين فيها تناهز 30 مليون جنيه إسترليني. استثمار مثل هذه الفرص يؤكد امكانية الدخول في صناعة الاعلام الغربية من بابها الواسع وبالتالي عولمة الكثير من القضايا المحلية التي لو استثمرت اعلاميا لربحنا الكثير فيها على حساب الاعلام المضاد.
عالم اليوم الذي تسوده الصورة اكثر من اي شيء يختلط فيه الواقع بالخيال والمصداقية بالتضليل فيصبح امتلاك قضية سامية غير كاف لنجاحها بل ان القضية بحاجة الى منبر يخاطب العقول ويستميل القلوب وهذا المنبر لا يصنعه مقدم برنامج يشتم الاعداء صباحا ومساء فهذه الاساليب تحطمت تحت رحمة المد الاعلامي الرقمي الذي يتخذ من العالمية هدفا له، ومن ثم فنحن اليوم بحاجة الى مصارحة مع الذات والبحث عن التسويق لقضيتنا الاساسية بين ثنايا اخفاقنا المتواصل بالحرب الناعمة في ظل الانتصارات العسكرية المتواصلة ضد معسكر الارهاب والتكفير ولا يمكن ذلك الا من خلال منبر اعلامي عالمي.
اضف تعليق