بسبب تلاحق الاحداث وسرعة التحولات وشدّة التفاعلات في الاصعدة كافة، ابتعد العراق مسافات بعيدة عن البناء الثقافي والمسار الحضاري، ليعيش اللحظة الراهنة، وما يكرس هذا الواقع الخطير، توهّم البعض أن العلم والمعرفة والثقافة وحتى الاخلاق، من الامور التي تحدد الحركة في ساحة تشهد تكالباً على الامتيازات والاستحواذ على اسباب القوة، من مال وسلطة ومكانة اجتماعية. بينما العكس اثبت صحته فيما مضى من تجارب الشعوب والأمم، بأن تغييب تلك المفردات الحيوية وكل ما يتصل بالعقل والمنطق، هو الذي أدى بالشعب العراقي، وكذا عديد الشعوب الاسلامية لأن تعيش الفوضى والتخلف ومرارة العيش.
هكذا شخّص، سماحة آية الله السيد محمد رضا الشيرازي – قدس سره- أصل المشكلة وبدقة، عندما أشار الى السنين الاولى التي اعقبت الاطاحة بنظام صدام، حيث طغيان لغة القوة والعنف، بسبب وجود قوات الاحتلال الاميركي وما استدعته من ظهور جماعات مسلحة حملت شعار "محاربة الاحتلال"، وكانت الانعكاسات سلبية وسريعة على المجتمع العراقي، وبالرغم من الجهود المبذولة في طريق نشر الوعي والثقافة في المجتمع، بيد أن تراكمات الماضي جعلت المهمة صعبة وتحتاج الى طول أناة وتجلّد وعمل طويل.
ولانها فترة تحول من ثقافة الديكتاتورية والعنف والقسوة، الى ثقافة مغايرة تماماً، فان سماحة الفقيه المقدس – قدس سره- يشدد على محدثيه بأن "اليوم هي مرحلة تحول، وهي مرحلة مهمة جداً، رغم كل المشاكل، ولكن هذه فترة يتم البناء عليها، بل هي فرصة قد لا تتاح في المستقبل لكم وللمؤمنين، كما كانت فترات التحول في التاريخ مهمة جداً".
نعم؛ لقد انصرف البعض في العراق الى بناء الدور والشركات التجارية والكيانات السياسية وكل ما يحقق مصالح ذاتية وفئوية، بينما دعا سماحته الى البناء الثقافي الذي يخاطب العقل والضمير الذي طالما غيبهما النظام البائد، وكان السبب في انزلاق العراق؛ البلد والشعب في مهاوي الحروب المدمرة.
ويستشهد سماحته بالإمام الصادق، عليه السلام، وإنجازه الاكبر والأهم المتمثل في بناء الثقافة الاصيلة، ولم يشيد المباني ولا الصروح العلمية، و"بنى الامام الصادق البنايات والصروح العلمية لجاءت معاول العباسيين وهدمتها، وهذا في الماضي، واليوم تقوم بنفس الدور السيارات المفخخة، ولكن الإمام الصادق بنى ثقافة...."، والثقافة التي يتحدث عنها سماحته هي نفسها التي خرجت العباقرة من العلماء في الكيمياء والفلك والرياضيات والفقه وغيرها، الى جانب علماء في الكلام (الفلسفة)، فهؤلاء كانوا بمنزلة مصادر الإنارة الحضارية للعلم والمعرفة، وعند قاماتهم، توقف كبار الجدليين والزنادقة والملحدين. واذا نسمع اليوم باستفادة الغرب علمياً من الحضارة الاسلامية، فان الفضل يعود الى أولئك الافذاذ وجهودهم في التأليف والبحث. هذه القوة المنيعة للصرح الثقافي هو ما يشير اليه سماحته بانه رغم مرور اكثر من ألف عام على استشهاد الامام الصادق، عليه السلام، فان " الفكر الشيعي والثقافة الشيعية تتحدى الأعاصير، لإنها تمتلك القوة والصلابة التي لا تجدون لها مثيلاً في أية أمة أخرى، ولقد فعلت الحكومات كل شيء ولم تتمكن من القضاء على هذه الثقافة".
والسؤال الذي يقفز امامنا؛ ما هي الوسائل الكفيلة الى بناء هذا الصرح؟، من جملة وسائل وآليات يسلط سماحة الفقيه الشيرازي الضوء على "الإقناع".
نعم؛ هنالك التأليف والنشر والحديث والخطابة وغيرها من اساليب نشر الوعي والمعرفة، بيد أن "العبرة بالنتائج"، ولابد من النظر الى الثمار من بعد جهد جهيد، وإلا كان العمل أشبه ما يكون؛ إسقاط واجب. بينما الفقيه الشيرازي يتطلع الى التأثير المباشر على العقول لتوجيه الناس الى مصدر النور والحقيقة، وهو في ذلك، يضخ الأمل ويشد العزائم بعد تشخيصه المشكلة الثقافية "معرفية"، فهو يرى التكفيريين منتشرين في الساحة– يسميهم المعاندين- بيد أنه يقلل من شأنهم ويقول: "لنضعهم جانباً، لكن ما بال بقية البشر، لماذا لا يأتون إلى النور، فهل هنالك من يعادي النور".
وهنا يدعو سماحته الى حركة دؤوبة لنشر الوعي والثقافة في اوساط المجتمع لاسيما شريحة الشباب بما يهمهم في حياتهم اليومية مثل قضية الحجاب للفتاة، والحياة الزوجية والأسرية ومسائل المعاملات وغيرها كثير. هذه الحركة هي التي تجد مكانها في الواقع الاجتماعي والسياسي وحتى الاقتصادي، وليس ما يدعيه البعض او يتوهّم بواقعيته من قوة المال والسلطة، لأن "للقوة أمد محدود، كما ان للسيف والسوط أمد محدود أيضاً، والعراق يعيش حالياً عهد الانفتاح ، والقوة لن تجدي نفعاً ولن تدوم طويلاً، إنما الذي يبقى هو الإقناع والفكر...".
وقد استشهد سماحته بتجارب رائدة حققت نجاحاً باهراً، ليس اليوم او قبل سنوات، إنما قبل حوالي خمسة عقود من الزمن، وفي كربلاء المقدسة تحديداً، في سني الخمسينات والستينات، عندما أسس الخطيب والكاتب الشهير السيد كاظم القزويني – طاب ثراه- "رابطة النشر" التي اهتمت بنشر الثقافة الاسلامية وطباعة الكتب والكراسات وتوزيعها الى مختلف انحاء العالم والتواصل مع المسلمين في كل مكان، من مختلف الطوائف والانتماءات. ورغم تلك الظروف والامكانات المحدودة، كان السيد القزويني يوصل كلمة الحق والحقيقة الى أصقاع العالم ويغير القناعات فتأتيه الرسائل بتغيير وجهة الكثير من الظلام الى النور والاستبصار بنور أهل البيت، عليهم السلام. بما يعني حاجة الامة والشعب العراقي تحديداً على مزيد من الندوات والدورات وورشات العمل لنشر المزيد من الوعي والثقافة بأساليب حديثة تحقق النجاح المطلوب.
اضف تعليق