ثمة تصور شائع في الاوساط، أن تحقيق انجاز معين في مشروع ما، من خلال تعدد القوى وعوامل التنفيذ، له سلبياته اكثر مما له فوائده، فالبعض يخلق هاجس ضياع الفكرة بعدم التفهّم، وتشتت القدرات وتشوه الابداع، الامر الذي يضيع على صاحب الفكرة والمشروع فرصة النجاح، وربما يكون هنالك الاحباط والانكفاء وغيرها من التداعيات، بينما الحل – لدى هذا البعض- هو بالانفراد وتوفير راحة البال للنهوض بالمهمة بالشكل المطلوب. ولكن؛ هذا التصور لن يصمد أمام كثرة السلبيات في الخيار الثاني، لأن الحقيقة المعروفة تقول: أن الغصن الدقيق واليابس قابل للكسر بسهولة، لكنه يكون عصيّاً، عندما تصطف الى جانبه أعداد لا بأس بها من الاغصان اليابسة، وربما تتحول الى حزمة ضخمة.
إن كان هذا يصدق على الاعمال ذات البعد المحدود في حياة الانسان، مثل المشاريع التجارية أو مشروع بناء البيت وغيرها، فانه يكون استحقاق أكيد في المشاريع الحضارية ذات الابعاد الواسعة في حياة الانسان والمجتمع والأمة. وهذا ما يجعل سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- يدعو في مؤلفاته وأكثر، في محاضراته واحاديثه الى العمل الجمعي واتحاد الأيدي للنهوض بمسؤولية ما، أو تحقيق مهمة ما، ففي كتابه القيّم "لكيلا تتنازعوا" يؤكد سماحته حقيقة الصعوبة في الاندماج مع الآخرين و"أن ثمن التوحيد باهض..."، بيد أنه يشير الى ان "لو انفرد الانسان واراد تفادي المشاكل، لابد وأن يقع في مشكلة اكثر من واقعه وسيادته وفكره وأعصابه، وإن هذه حقيقة يجب أن يفهمها كل إنسان تقدمي، وكل إنسان له هدف في هذه الحياة".
لكن؛ ما هي تلكم المشاريع والاعمال التي تستوجب كل هذا التوجه والحرص على تجاوز الذات والاندماج في المجموع...؟.
بكل بساطة، انها المشاريع والاعمال التي تمتد مع الزمن ولا تتوقف مع توقف صاحبها، لأي سبب كان، ربما منها ارتحاله عن دارالدنيا، كما تترك تأثيرها العميق في النفوس وتتحول الى منهج وسلوك. وهذا - بالحقيقة- يُعد إحدى الاشكاليات المطروحة على بعض التيارات الفكرية او المفكرين والشخصيات الثقافية والدينية الناهضة والطامحة للتغيير، فانها تحمل بين جنباتها همّ المجتمع والأمة، وتفكر في الإصلاح والتغيير نحو الاحسن، بيد أن المشكلة في الآلية والسبيل لتحقيق المراد، مثالنا البارز في التأليف والتنظير، فقد شهدت الامة خلال القرن الماضي بروز مفكرين ومنظرين قدموا اطروحات للتغيير الاجتماعي والثقافي والسياسي، وقد شقّت افكارهم اخاديد في الساحة الثقافية، وحصدوا اعداداً لابأس بها من القراء والمتابعين، بيد أن هؤلاء لم يتجاوزا دفتي الكتاب ولم يتقدموا خطوة واحدة على الارض بعيداً عن رفوف المكتبات، ولم يلامسوا واقع الانسان، وبعبارة أخرى؛ لم يتحولوا الى تيار حقيقي ملموس له مصاديقه على الارض. فهذه الافكار لو كانت تحولت الى مراكز ابحاث ودراسات لمزيد من تجديد الفكر وتحديث الطرح، لكان أكثر فائدة وتأثيراً، بل وحتى في إطار هذه المراكز الدراساتية ايضاً، نجد ضرورة العمل الجمعي ايضاً، فالمسألة لا تتوقف عند حد، وإلا سيكون المفكر وصاحب المشروع الضخم والحضاري، صاحب مشروع مؤسسي، بيد أن هذه المؤسسات لم تبرح أن تحولت الى شخوص وكيانات تحوم حول نفسها، بإدارة خاصة ومزاج معين و ربما هدف خاص.
من هنا؛ يؤكد سماحة المرجع الراحل على ضرورة الالتفات الى هذه الحقيقة لمن يريد تحقيق الاهداف الكبيرة، ويستشهد سماحته بمثال كبير وبارز، وهو عالم الدين، ذو المكانة العلمية والاجتماعية، فهو يؤمّ الجماعة باعداد غفيرة، ويلقي الدروس في العلوم الدينية وينفق ويؤسس ويؤلف و...فيقول سماحته: "لو فعلت جميع ذلك، عليك أن تعرف أن عملك كله لم يخرج من كونه عملاً فردياً، وخليق بأن ينهار، لأن كل عمل فردي مآله الانهيار. وبالعكس لو كوّنت هيئة للعلماء للنظر في شؤون الناس، وللنظر في شؤون الناس...".
ويدعونا سماحته الى أن تكون مشاريعنا "محمولة على أكتاف المجتمع...". لأن هذا من شأنه ان يوفر الوقت لمزيد من العمل في مشاريع اخرى، ثم يعطي لانجاز العمل طعماً آخراً يستشعره الجميع، وهذا من شأنه تكريس الفكرة ونشر الوعي والمعرفة على نطاق واسع وعلى مدى فترات زمنية غير محدودة. فالجميع يحملون الفكر والجميع ينتصرون به.
اضف تعليق