من المفترض أن تكون القوى السياسية في أنظمتنا الديمقراطية الحديثة النشوء، مساهمة في نشوء وتنمية القدرات، ثم المحافظة عليها كقاعدة مطمئنة تقف عليها وتمارس من دورها المناط بها، وهي موزعة على مصادر بشرية، مثل القدرات المتمثلة بالعقول والأدمغة، والكثافة السكانية المتوازنة مع وجود نسبة لابأس بها من شريحة الشباب، وايضاً القدرات الطبيعية المتمثلة بالثروات المعدنية والزراعية والنفط وغيرها، الى جانب القدرة العسكرية. وهذا يفضي الى مزيد من الاستحكام في العلاقة بين النظام الحاكم وجماهير الشعب، وتعميق الثقة بين القاعدة والقيادة.
ويفيد هذا التوجه، للدلالة على مصداقية الحاكم او نظام الحكم، على أنه يمتلك بالأساس القدرات الذاتية، من عقول في الإدارة والتخطيط، واعداد كبيرة من الموالين المخلصين، وفي حال عدم وجود هذه المصداقية وافتقاد عناصر القوة في الجهاز الحاكم، فمن الطبيعي أن تنقلب المعادلة تماماً، ويكون الحكام الجدد الذين يتسلقون كرسي الحكم على أنقاض الديكتاتورية، هم بحاجة الى قدرات وعناصر قوة لتحقيق مصالح سياسية او فئوية او حتى شخصية، كما حصل في تجارب مريرة ابرزها ما يجري حالياً في العراق.
فقد كثر الحديث عن الاختلاسات المريعة واستغلال المنصب والاستفادة غير المشروعة من المال العام لاغراض شخصية وفئوية، واليوم يلاحظ المتابع مؤشرات على تجيير قدرة جديدة نشأت في الارض العراقية، متمثلة في "الحشد الشعبي" التي تمثل – بحق- قدرة استثنائية ربما تتحسر عليها كثير من دول العالم، فهي قوة عسكرية ضاربة بمعنويات عالية، مستندة الى قاعدة اجتماعية ودينية رصينة، تجعل من القتال والتضحية، بمنزلة المكسب الذي يجتذب الشاب الصغير والشيخ الكبير لأن يسترخص دمه في سوح القتال ضد من يهددون الارض والعرض. بينما من المفترض أن تكون لهذه القوة هوية وطنية عامة، لاسيما وأنها وليدة علاقة مقدسة بين جماهير الشعب والمرجعية الدينية.
المشكلة تبدأ عندما تغيب المعايير الصحيحة في الاستفادة من هذه القدرات، فعندما يكون معيار "الحق" بيد حزب معين أو شخصية معينة، فمن الطبيعي ان نشهد التقلبات في النفوس ثم السلوك، فهذا ديدن البشر، لاسيما اذا تعلق الامر بالسلطة والمال، وهما المرديان لكل من تسوّل له نفسه الالتفاف على رأي الشعب وحقوقه أو حول "الديمقراطية" التي امتطاها نحو قمة السلطة. لذا نجد سماحة المرجع الديني الامام السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في كتابه "الفقه السياسة" يسلط الضوء على "الحقوق والقدرات"، ويقارن بين المعايير البشرية وبين المعايير السماوية ليتضح أيهما أفضل للناس. فبالنسبة للمعايير البشرية، فان "النسبة بين القدرة والحق، في الاصطلاح السياسي، أن كل قدرة استندت على القانون الموضوع، من قبل الاكثرية ابتداءً واستدامة، فهي قدرة حقّة، وما عداها؛ قدرة باطلة، بينما في الاصطلاح الاسلامي؛ القدرة الحقّة، ما كانت مستندة الى القانون الإلهي".
وهنا يضع سماحته – قدس سره- يده على أحد أهم الثغرات في التجربة الديمقراطية، التي يفترض أن توفر للشعب الحق في العزل كما أعطته حق الانتخاب، بينما نلاحظ الامر على أنه مجرد أمنية أو نظرية تقرأ في الكتب وغير قابلة للتطبيق في الواقع العملي، او على المدى القريب في أحسن الافتراضات.
في هكذا مآل، يكون الشعب مجبراً على العيش في ظل نظام ديمقراطي في الظاهر – وهذا يصدق ايضاً على جميع البلاد الديمقراطية المتورطة بحكام فاسدين- مع وجود شريحة من الساسة الذين لا همّ لهم سوى استنزاف قدرات البلد والشعب وتجييرها لمصالهم الخاصة. واذا ما حصل اعتراض على الوضع الموجود، فان الجواب يأتي سريعاً في "ضرورة المشاركة في الانتخابات القادمة...". وقد هالني – حقاً- ما صدر عن أحد الساسة العراقيين من الجنس المؤنث، بالتهديد المبطن لكل من يمتنع عن المشاركة في الانتخابات بأن "لا حق له بالتظاهر والاعتراض على الحكومة والنظام السياسي..."!.
وإذن؛ فالمشكلة ليست في أشخاص، ربما يكونوا بحاجة الى سنين طوال حتى يتقنوا الأداء السياسي والطريقة الصحيحة لإدارة أمور البلاد، إنما في البنية التحتية للنظام السياسي، وفي الكتاب المشار اليه، يقدم الامام الشيرازي – قدس سره- البديل الحضاري، ويحدد الصفات الخاصة لمن تكون بيده القدرة، فالاسلام لا يعطي القدرة إلا لمن اجتمع فيه شرطان؛ الاول: الكفاءة النابعة من التقوى، ويوضح سماحته العلاقة بين المفهومين، بأن التقوى تعطي الانسان "الحذر من المزالق الدينية والدنيوية، وتعطيه الكفاءة الفائقة التي لا تماثلها الكفاءات الدنيوية". أما الشرط الثاني: فهي المشروعية، بحيث تكون على قدر الحق في التصرف بالمنصب والامتيازات والصلاحيات، "فان القدرة المتمركز ديكتاتورياً لا يعترف بها الاسلام".
وهذا يضع المعنيين في أمر السلطة والحكم، أمام استحقاق خطير اذا ما ارادوا المضي قدماً في التجربة الديمقراطية وتحقيق – ولو بعض النجاح- في إدارة الدولة، بأن يلتفتوا الى قاعدة المشروعية التي تستند اليها هذه التجربة. فكلما كان الابتعاد اكثر عن المعايير الصحيحة، كان الاقتراب اكثر الديكتاتورية والمزيد من هدر القدرات وتهديد البلاد بما لا يحمد عقباه.
اضف تعليق