الحروب في جميع بلاد العالم تمثل فرصة لإصحاب الرساميل لأن يبعثوا الحيوية والنشاط في منشآتهم الانتاجية والصناعية لمزيد من الإثراء، كما هي فرصة لشريحة الساسة وأهل الحكم لكسب الامتيازات وتسجيل البطولات في سجل الحرب، وما يمكن ان تحمله من دلالات معنوية، مثل "المقاومة" و"التحرير" وغيرها، لذا نجد بعض البلاد انشغالها وانغماسها بالكامل في جعجعة الحرب وتوظيف كل القدرات والامكانات المادية والبشرية في هذا السبيل، بينما البعض الآخر، نرى لها عين على جبهات القتال، وأخرى على المستقبل ومرحلة ما بعد الحرب، فهي تخطط، تكتيكياً واستراتيجياً للحرب، بيد أنها لا تغفل التخطيط الاستراتيجي على صعيد التنمية الاقتصادية والبشرية وما يفيد مستقبل البلاد، وهذا ما فعلته الولايات المتحدة، عندما شاركت في الحرب العالمية الثانية في وقت متأخر الى جانب الحلفاء (بريطانيا وفرنسا وغيرها)، وفي ادمغة علمائها خطط استراتيجية لما بعد الحرب، وهو ما لم تفعله المانيا الهتلرية التي عاشت الحرب ثم الحرب ولا غير، فكانت نهايتها وانهيارها التام في هذا المستنقع.
هذه التجارب، من الجدير الالتفات اليها في العراق، وهو يواصل خوضه الحروب، الواحد تلو الآخر، في سلسلة طويلة، بدأت عام 1980 بالحرب العراقية – الايرانية، واستمرت مع غزو الكويت وما يسمى بحرب الخليج الثانية عام 1991، ثم الحرب التالية عام 2003 والاطاحة بصدام الذي أعقبه حرب أخرى من نوع جديد، وهي "حرب الارهاب". هذه السلسة من الحروب اصبحت مسوغاً للبعض من المعنيين في الدولة، للتنصّل عن مسألة التخطيط لما بعد مرحلة الحرب، بدعوى أن الارهاب يحدث أجواء تشنج وتوتر في الميدان الاقتصادي يحول دون تحقيق أي منجز، ويسوقون الى ذلك أمثلة في القطاع الزراعي وتعرضه لضربات موجعة بسبب تحصن الارهابيين في البساتين والمناطق الزراعية، التي أحالتها الى أرض محروقة، والى قطاع الخدمات الذي يمثل هدفاً سهلاً لهم لتوجيه الضربات المؤثرة للدولة، مثل تدمير ابراج الكهرباء وغير ذلك.
بمعنى أنه لابد من الانتهاء من الحرب واستتباب الامن والاستقرار كاملة، حينئذ يمكن التفكير بالبناء والتطوير، بينما التجارب القريبة منّا تفيد أن أجواء الحرب في ميادين القتال لا تمنع بأي حال من الاحوال التحرك في المدن للانطلاق في مشاريع تنموية او وضع خطط مستقبلية للتنمية، ومثالنا في ذلك؛ ايران خلالها الحرب مع العراق، فهي كانت تخوض أشرس المعارك على جبهات القتال، وهي فر ظروف استثنائية وتاريخية، حيث كانت محرومة من العلاقات الطبيعية مع معظم الدول المتقدمة والصناعية، الى جانب الحصار الاقتصادي العالمي الذي صنعته اميركا حولها، منذ تلك الايام، وفيما كان الجنود الايرانيون يواجهون الترسانة العسكرية العراقية (الصدامية)، كان العمال والمهندسون يعملون بهدوء، ليل ونهار تحت الأرض في العاصمة طهران لشق الطريق لقطارات الانفاق الذي اكتمل وظهر الى النور في أيام السلم وبعد انتهاء الحرب.
هذا مثال بسيط من ايران في مجال النقل، حيث كانت ايران، وتحديداً العاصمة طهران تشكو النمو السكاني السريع والاختناقات المرورية وأزمة النقل، وهنالك أمثلة عديدة في مجالات أكبر وأهم، مثل الطاقة والمياه والزراعة والصناعة وغيرها. هذه الرؤية الاستراتيجية هي التي مكّنت ايران من الصمود بوجه تحديات اقتصادية ماحقة، واستطاعت ان تتجاوز سنوات الحصار والعقوبات التي قادتها مرة اخرى، الولايات المتحدة على خلفية المشروع النووي. علماً إن هذا وغيره، ليس بالضرورة أن يصنع من ايران قوة اقتصادية في المنطقة والعالم، كما هو حال الدول المتقدمة صناعياً في العالم الثالث مثل الصين والهند وكوريا الجنوبية، بيد أن البرامج العملية للمدى البعيد تضمن مكاسب اقتصادية وسياسية في آن واحد.
والعراق ليس فقيراً في التنظير بأمر التخطيط الاستراتيجي، فوزارة التخطيط تعد من مهامها الاساس وضع هكذا خطط وإقامة ورش عمل في الجامعات والمراكز الاكاديمية، بيد أن الحاجة الماسّة الى الميدان العملي وتطبيق النظريات على الارض. ففي عام 2013 قدمت وزارة التخطيط، دراسة مستفيضة عن "خطة التنمية الوطنية 2013- 2017"، وجاء في خلاصة الخطة: "أنها جاءت في مرحلة جديدة في مسيرة التخطيط التنموي، وتعد الحلقة الأولى في منظومة مسار استراتيجي للنهوض الاقتصادي والمجتمعي. ويشكل الدستور وبرنامج الحكومة التشغيلي 2014-2011 والاستراتيجيات الوطنية والأهداف التنموية، اطارا مرجعياً سانداً لهذا المسار الذي يتضمن رؤية مستقبلية بعيدة المدى تهدف إلى بناء اقتصاد متنوع ومزدهر تقوده قطاعات الصناعة والطاقة والزراعة والسياحة، يكون القطاع العام والخاص والمجتمع المدني، شركاء في التنمية...". كل هذا وغيره من التنظيرات الجميلة بحاجة الى ميدان عملي ومحك تقدم استنتاجات عن الممكن انجازه لئلا يكون الانفاق في غير محله او يذهب هدراً.
من هنا؛ فان الرؤية المستقبلية بحاجة الى أرضية للوصول الى الاهداف المنشودة، وهي ارتقاء مراقي التقدم في مجالات عدة، فحتى الاستثمار، الذي تتابعه دوائر الدولة حالياً فانه بحاجة الى أرضية صلبة تضمن نجاحه، وإلا ما الذي يشجّع اصحاب الرساميل على وضع اموالهم في الارض العراقية؟، مما يدعو المعنيين في الدولة إعادة النظر في القوانين والتشريعات الخاصة بالاستثمار، وتكون هذه القوانين في نسق واحد مع الرؤية الاقتصادية الوطنية الشاملة، بحيث يكون الاستثمار الخارجي رديفاً لمشاريع التنمية في الداخل، لا أن يكون شيء على حساب أشياء اخرى، كما يحصل في عديد دول العالم الثالث.
إن هكذا رؤية مستقبلية واستراتيجية وروح وثابة للعمل والانتاج والابداع، من شأنها ان تنقذ البلد من دوامة الحروب المستوردة من الخارج، بدليل واحد فقط، وهو انعدام مبررات التمرد والتأزم التي أججت نار الحرب داخل العراق منذ الاطاحة بنظام صدام، لان التنمية والتطور لن يكون مقتصراً على مدينة او محافظة او فئة معينة، إنما يكون للعراق من شماله الى جنوبه.
اضف تعليق