q

في خضم المواجهات التي نخوضها على اكثر من جبهة في الوقت الحاضر، نبحث – بالدافع الفطري- عن اسباب القوة وعوامل الردع، وهذا مشهودٌ على الصعيد العسكري في معاركنا مع الجماعات الارهابية والتكفيرية، وعلى الصعيد السياسي في مواجهتنا لظواهر الانحراف، مثل الاستبداد والفساد والطغيان وغيرها، وحتى على الصعيد الثقافي والفكري، حيث تدور سجالات حول ظواهر لا أخلاقية أو حالات اجتماعية شاذّة يُراد تغييرها واستبدالها بحالات ايجابية وبناءة، مثل التعاون والتعايش والتوادد وغيرها. فمن أين تأتي اسباب القوة؟ هل من خلال الخوض في دوامة الازمات والمشاكل والتفكير الدائم بمن يريد السوء بنا ويشكل خطراً علينا؟.

إمكانية صناعة الاصدقاء

صحيح إن جزءاً كبيراً من الازمات والمشاكل التي تعيشها بلادنا، يعود الى اسباب داخلية في ذات الفرد والمجتمع، بيد أن هذا لا يعني ان نكون وحيدين في الساحة، فثمة امكانية لاستثمار فرص جديدة وخلق أجواء ايجابية تخرجنا من اليأس والاحباط، و ربما يمكن وصف حالنا بمن تعرض داره الى حريق والى جواره جمع غفير من الجوار الذين يشمرون عن السواعد للتعويض عمّا حدث، وهذا لم يكن إلا للرصيد الذي تركه صاحب هذه الدار في نفوس هؤلاء من المكارم والفضائل والخصال الحسنة.

كان النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، وهو المرسل من السماء لتبليغ الناس بالرسالة الإلهية وإخراجهم من الظلمات الى النور، ثم تعرض لمختلف الممارسات العدوانية من الكفار والمنافقين، مع ذلك فانه لم يدع هذه الممارسات تستفحل وتتحول الى عقبة في طريقه، فكانت مبادرات العفو عن المشركين والكفار وحتى مهدوري الدم، وكانت محاولات الاستيعاب للمنافقين، كما كانت محاولات التسامح واللين مع الفئة البعيدة عن الاخلاق والاحكام والآداب ممن كانوا يسيئون اليه. وهذه النقطة المضيئة بالذات، ما استوقفت الباحثين والمؤرخين الغربيين تحديداً، عندما اكتشفوا البراعة في كيفية صناعة الاصدقاء والمحبين، وكذلك فعل الامام علي، عليه السلام، قبل وبعد توليه الحكم. فلا نقرأ ابداً ما يشير الى خلق الاعداء والمناوئين، وإن وجدوا، فانهم السبب في خلق الازمة والمشكلة، كما حصل مع طلحة والزبير ومع معاوية ومع الخوارج، وإلا فان التاريخ يسجل للإمام أمير المؤمنين، عليه السلام، العدل والمساواة والحرية وغيرها من المفردات الحضارية، وهو ما يُقر به المؤرخون والباحثون من مسلمين وغير مسلمين. وعلى هذا النهج، سار الأئمة المعصومون، عليهم السلام، فهم كانوا يبحثون عن الاصدقاء قبل الاعداء، لذا كانوا أقرب الى المجتمع والى الانسان من الحاكم والسلطان رغم ما يمتلكه من مال وسلاح وسجون وإعلام مضلل وغيره كثير.

الى جانب هذا الإرث الحضاري الضخم، يمكن الاشارة الى تجارب معاصرة، حيث شهدت البلاد الغربية تحديداً، وما تزال، حضوراً متميزاً للجالية الشيعية، صحيح أنها انشغلت بنشر التشيع وثقافة أهل البيت، عليهم السلام، خلال مناسبات مختلفة منها أيام عاشوراء، بيد أنها قدمت في الوقت نفسه، أنماطاً للسلوك الحسن والاخلاق السامية الى المجتمع الغربي، لذا كانت المخالفات القانونية أقل بكثير مما يصدر من سائر الجاليات، او ربما لا تقاس أبداً، حتى عرف الغربيون، وجميع الشعوب في العالم، أن اتباع أهل البيت، عليهم السلام، ليسوا ممن تصدر منهم أعمال العنف والارهاب.

في ساحة المواجهة

عندما تنجح الجالية الشيعية في اميركا الشمالية واوروبا واستراليا وبلاد اخرى، في كسب الاصدقاء وصناعة رأي عام مساند لهم، فهذا يعني أن الشيعة قادرون على تحقيق ذلك، في البلاد الآسيوية والافريقية ذات الاغلبية المسلمة، وتضييق المجال أمام الجماعات التكفيرية والقوى السياسية التي تشعر بالخطر الشديد من الانتشار الشيعي في العالم الاسلامي، من خلال نشر مفاهيم التسامح والتعايش والاحترام المتبادل، وتبليغ الناس بحقيقة الإسلام المغيّب عنهم، من خلال نشر راية السلام التي رفعها أهل البيت، عليهم السلام، طيلة حياتهم. فالمسلمون، ومنهم الشيعة في الغرب، واجهوا الإساءة للنبي الأكرم في الغرب بتظاهرات سلمية رفعوا فيها لافتات تظهر حبهم لدينهم ومقدساتهم واحترامهم للقيم الانسانية، وهذا ما يجب فعله ايضاً في البلاد الاسلامية عندما يتعرض أهل بيت النبي الأكرم، الى الإساءة أو يتعرض شيعتهم الى العدوان وأي شكل من اشكال الاساءة والأذى. فالغربيون عرفوا جيداً من هم الشيعة، فحريّ بالمسلمين، وهم منتشرون على بقعة جغرافية واسعة من العالم، وبتعداد نفوس يصل الى مليار ونصف مليار نسمة، أن يعرفوا حقيقة الشيعة والتشيع، ولو أن هذا ليس بالامر السهل، وبحاجة الى جهد ومثابرة ومتابعة، بيد أن نتائجه باهرة وعظيمة.

إن ما حصل للشيخ الشهيد حسن شحاته في مصر، وما حصل للشيخ ابراهيم الزكزاكي في نيجيريا، وما حصل قبل ذلك بأعوام وما يزال للشيعة في باكستان والخليج وغيرها من المظالم والاعتداءات، يمثل بالنسبة لنا درساً بليغاً في إعادة الحسابات والتوقف ملياً للخروج بصيغة ناجحة لكسب الساحة والالتفاف على أي محاولة عدوانية، وإن حصلت، فان الرأي العام يكون الى جانبنا في محاسبة الارهابيين والمتسببين بسفك الدماء والاعتداء على الحرمات.

ورب سائل عن فائدة البحث عن الاصدقاء في وقت يتكالب الأعداء علينا من كل حدبٍ وصوب، حتى يخال البعض أن المرحلة الراهنة، تقتضي الهجوم واستخدام العنف والشدّة، بيد أن آفاق المرحلة تؤشر الى احتمال الخسارة الاكبر في هذه الحالة، اكثر مما يحصل اليوم، عندما نصاب بالاستنزاف في القوى والامكانات، وهذا تحديداً ما تريده القوى المعادية، سواءً في شكل حكومات وأنظمة حكم سياسية او في شكل جماعات ارهابية. وطالما سعت دول مثل السعودية خلال العقود الماضية لكسب الاصدقاء والموالين في العالم الاسلامي والعالم بأسره من خلال شراء الاقلام والمواقف للظهور بالمظهر الحسن أمام العالم، فكانت النتيجة ما يراه العالم بكثير من الغرابة بوجوده الأدلة على دعم ومساندة هذا البلد للجماعات الارهابية، بل ورعايته للتكفير والكراهية. وهذه بحد ذاتها تمثل الفرصة الذهبية أمامنا لاستثمار الموقف الدولي والاسلامي على الصعيد الاعلامي والسياسي والاجتماعي لتقديم الصورة الصحيحة للإسلام.

اضف تعليق