إن الشريحة الأوسع للمجتمع العراقي هي من الطبقة الشعبية الكبيرة، فإذا أردنا أن كون شعبا مثقفا علينا أن نباشر بصناعة المثقف الشعبي على كافة المستويات والمسؤوليات، تتقدمها المسؤولية الذاتية الإنسان هو يبدأ بتثقيف نفسه، والمسؤولية الحكومية تتكفل بها وزارة الثقافة وتفرعاتها المعروفة...
يوجد بون شاسع بين الثقافة النخبوية والثقافة الشعبية، وهذا الفارق جعل النخب ينظرون للناس من الشرائح الأخرى على أنهم قاصرون ثقافيا، ومقالنا هذا يأتي ضمن سلسلة مقالات تم تخصيصها للخوض في الفوارق بين الثقافة العمودية والثقافية الأفقية.
الثقافة العمودية تخص النخب المختلفة الثقافية والاجتماعية والسياسية وسواها، أما الثقافة الأفقية فهي تتعلق بعامة الناس الذين تتشكل منهم النسبة الأوسع للمجتمع، وهؤلاء هم الذين يمثلون الطبقة الشعبية، أما النخب فإنهم يمثلون الطبقة المثقفة، ولهذا يصف المهتمون النخب بأنهم قادة الفكر والاقتصاد والسياسة في البلد، فيما ينخرط الآخرون من الطبقة الشعبية في المراكز الأقل تأثيرا في الدولة والمجتمع.
هناك من يسعى لتعميق الفوارق بين الثقافتين العمودية (ثقافة النخب)، وبين الثقافية الأفقية (ثقافة عامة الناس)، وهذا الهدف من شأنه خلق مشكلات وأزمات عديدة تجعل الدولة والمجتمع في حالة عدم استقرار، والهدف من وراء ذلك أن تنشغل الناس أو المجتمع بالأزمات والصراعات وتنسى الهدف الأهم ألا وهو مجاراة العالم أجمع في سعيه نحو التطور.
نريد أن نركز هنا على إمكانية صنع المثقف الشعبي، فهل يمكن ذلك، وكيف سيتم أو سيتحقق، وأخيرا لماذا هذا السعي نحو هذا الهدف؟
وقبل ذلك ماذا نقصد بالمثقف الشعبي، نحن نعرف أن غالبية المجتمع العراقي يعد من الناس العاملين في قطاعات مختلفة تعود عليهم بأرزاق متباينة الدخل، وهم في الغالب أناس ليسوا (برجوازيين) أو (ارستقراطيين)، إنما هم أناس بسطاء يسعون لتحقيق أرزاقهم اليومية البسيطة التي تسد رمق العائلة والحاجيات الأساسية الأخرى، فهم إذًا أناس بسطاء ويمكن أن نطلق على أحدهم (الإنسان الشعبي)، ولكن هل تعني هذه التسمية بأنه غير مثقف؟
كيف نتسلَّق السلَّم الثقافي؟
كلا بالطبع، فالثقافة لا علاقة لها بمصدر الرزق أو مستوى الدخل السنوي، أو حجم الموارد التي يحصل عليها الإنسان، وإنما ثقافة الإنسان تكاد تكون جهدا فرديا يحصل عليه من سعيه ومثابرته على تثقيف نفسه من خلال المطالعة والبحث والاستقراء والتعلّم المستمر.
وفي عودة إلى الأسئلة الثلاثة المطروحة سابقا، نبدأ بالشق أو بالسؤال الأول حول إمكانية صنع المثقف الشعبي، الجواب يمكن أن يكون الإنسان الشعبي مثقفا، وهناك أمثلة لا حصر لها في هذا الجانب، بل يمكن أن نقول بأن جميع من تسلق سلّم الثقافة صعودا إلى النخب هم من الطبقة الشعبية، وأن هناك الكثير من العلماء والمفكرين والكتّاب ينحدرون من الطبقة الشعبية، ولا يزال يسعى الإنسان الشعبي لتطوير نفسه فكريا وثقافيا وسوى ذلك.
لهذا هناك إمكانية لصنع المثقف الشعبي، ويبدأ ذلك بالجهد الذاتي، أي سعي الإنسان نفسه لبناء ثقافته الخاصة به من خلال سعيه الجاد في هذا الاتجاه، ولكن في نفس الوقت يجب أن تقوم الجهات الرسمية الحكومية بتوفير الفرص والإمكانات والأدوات التي تساعد على صناعة المثقف الشعبي، ولا تعتمد الحكومة منهج الإهمال والتجهيل والإبقاء على الطبقة الشعبية في حالة من التأخر وقلّة الثقافة والتعليم، وهناك دور للمنظمات المدنية أيضا في صناعة المثقف الشعبي.
النهوض بالوعي الذاتي
إذن الإجابة نعم يمكن صناعة المثقف الشعبي، والارتقاء به إلى مستوى أعلى، أما الكيفية التي تتم بها هذه الصناعة، فهي ذات مسارين، الأول المسار الذاتي وهو الأهم والذي ينطوي على الحماسة والاندفاع والسعي الذاتي للإنسان نحو بناء ثقافته وفكره وتطويرهما وتشكيل مستوى عال من الوعي الذاتي تجاه الأوضاع كافة.
وكذلك المسار الخارجي الذي يجب أن يتحمل الجزء الكبير على صعيد صناعة المثقف الشعبي الذي يكون قادرا على فهم ما يدور حوله من قضايا وأحداث، ولا يبقى أسير الأفكار المنقولة، وإنما عليه أن يصبح مثقفا قادرا على التحليل والمتابعة والاستنتاج، وفي حال بلغ الإنسان البسيط هذا المستوى من الثقافة والفكر فإنه سوف يساعد في تشكيل مجتمع مثقف قوامه الطبقة الشعبية التي استفادت من ترويج وتعميم الثقافة الأفقية.
وأخيرا الإجابة عن الشق الثالث من السؤال، لماذا نسعى إلى صناعة المثقف الشعبي؟
هناك هدف واضح من هذه الصناعة، فكما ذكرنا سابقا إن الشريحة الأوسع للمجتمع العراقي هي من الطبقة الشعبية الكبيرة، فإذا أردنا أن كون شعبا مثقفا علينا أن نباشر بصناعة المثقف الشعبي على كافة المستويات والمسؤوليات، تتقدمها المسؤولية الذاتية الإنسان هو يبدأ بتثقيف نفسه، والمسؤولية الحكومية تتكفل بها وزارة الثقافة وتفرعاتها المعروفة.
وأخير أهمية الدور التثقيفي الذي يجب أن تتصدى له المنظمات الثقافية المدنية، وإمكانية أن تشارق بفاعلية عالية في صناعة المثقف الشعبي وتوسيع ونشر الثقافة بين جميع أفرد الشعب العراقي، البسطاء والنخب معا، حتى يتوفر لنا مجتمع مثقف واع يفهم ويحلل ويستنتج ويكون قادرا على موازاة ومواكبة التطورات السريعة الهائلة على المستوى العالمي كله.
اضف تعليق