ظلّتْ كلمة (سيد) ترنّ في سمعي، تُضاهي كلمة أستاذ، وتُشعرني بالزهو والاحترام، كانت هذه المفردة لها نكهة خاصة عندي، ولها وقع كبير عليَّ، تجعلني أشعر بأنني إنسان محترم وذو مكانة متميزة، كانت قبيلة باحترامها لي تقمعُ حركة الديدان في بطني وتقلل آلامي وتنقذني من الإحباط الذي يلتفّ حولي...
بعد أن عمل أبي في مصلحة نقل الركاب، خرجنا من الغرفة الصغيرة في بيت عمتي، واستأجرنا بيتا مستقلا في حي الإسكان أيضا، ولكن لا تزال موارد العائلة شحيحة، والفقر يلوك أفرادها بشراسة، ثم حصل أبي على قطعة أرض من دائرته مصلحة نقل الركاب، مقابل مبلغ رمزي، وبنى لنا بيتا صغيرا، لم يكتمل بالطبع، فهو بيت فقراء كما يُقال.
المنطقة الجديدة التي انتقلنا إليها اسمها حي رمضان، والمهم في الأمر أننا تخلصنا من إيجار البيت في منطقة الإسكان، لكن مبلغ الإيجار لم نستفد منه لأنه اصبح يذهب لتسديد قسط المصرف العقاري، كما أننا عانينا الظلام في بيتنا الجديد، فالمنطقة كلها لم تصل إليها خدمات دائرة الكهرباء، فكنا نحصل على الضوء من الفانوس الوحيد الذي نملأه بالنفط، فيكون النور شحيحا، والظلام يقبض النفوس...
أتذكر جيدا حين كنتُ أتسلق سياج بيتنا الجديد، جالسا فوقه، متطلعا إلى الأطفال في الساحة المفتوحة، في عصر أحد الأيام، رأيت أبي يأتي من بعيد ومعه شخص لا أعرفه، كانا يتحدثان بنوع من الخوف والقلق، وصل صوت الرجل إلى سمعي، كان يقول لأبي لقد حدث انقلاب وسيطر البعثيون على الحكم، كان الاثنان يعتريهما خوف، وكان الغموض يلف الوضع العام، الناس كلهم في قلق، والخوف من القادم يتضح في عيون الناس، كنتُ حينها في الصف السادس الابتدائي، وكان الفقر في تصاعد مؤلم، يسحق أرواحنا وأجسادنا.
اضطررت للعمل في بيع (الأسكيمو) وهي قطع صغيرة من المثلجات نضعها في عربة مصنوعة من الخشب، فيها خزان معدني نحيطه بالثلج والملح، ونملأه بقطع (الدوندرمة/ أو الآيس كريم)، وننطلق فجرا من قلب المدينة حيث يقع المعمل هناك، قاصدين الأحياء السكنية في رحلة تستغرق ساعات النهار الطويلة، نبيع ما لدينا لنربح القليل جدا، ونعود أدراجنا في الغروب إلى بيوتنا، حاملين معنا نقودا لا تكاد تُذكَر.
أصل إلى البيت منهكا من التجوال النهاري المتعِب، أضع النقود القليلة التي كسبتها في يد أبي، يقبّلها ويضعها على جبينه ويتمتم بكلمات شكر وحمد لله، في وقتها كنت أشعر بحزنه وكنت أرى ذلك في عينيه وفي نبرة صوته، حتى أنه كرّر أكثر من مره قائلا لي اترك هذا العمل المتعِب، لكنني كنت أرفض ذلك، فنحن عائلة ثقيلة تتكون من 8 أنفار، وكنت أرى بعيني معاناة أبي وهو يحاول أن يوفر القوت اليومي لنا.
لكن الغريب حقا أن يفكر أبي في مثل هذه الظروف بالزواج من امرأة ثانية، وحين سمعت بذلك من أختي زهرة هربت من البيت، وعملت في مطعم الكباب، وبعد ثلاث ليال عدت محملا بكمية كبيرة من الكباب كما ذكرت لكم، وسمعت من أبي وهو يقول (لقد ألغيت فكرة الزواج الثاني من بالي)، وهكذا قلت لنفسي بأن ما فعلته حين فررْرتُ البيت لم يذهب سدى، فها أن أبي يعود إلى الصواب ويترك فكرة الزواج، وها أن أمي باتت مطمئنة من هذا الأمر الجلل.
توضحت الأمور بجلاء وبدأنا نعرف بأن البعثيين سيطروا على حكم البلد، نحن أناس فقراء لا ناقة لنا ولا جمل فيما يحدث بين السياسيين، أبي يعمل في وظيفة خدمية بدائرة مصلحة نقل الركاب، مقابل راتب شهري لا يكاد يكفينا لنصف الشهر، بل كثيرا ما كنت أسمع أبي وهو يقول إن دنانير الراتب تفرّ من يدي في الأيام الأولى للشهر كما تفرّ العصافير من القفص.
وهكذا على الرغم من صغر سني ونحافة جسدي عملتُ في بيع الأسكيمو وبيع الخبز الساخن جوّالا في أزقة المدينة، واشتغلت عاملا للبناء، وعملت مع أحد أصدقاء أبي في مقهى بالحي الجديد الذي انتقلنا إليه، كنتُ أحصل على دراهم قليلة أيام كانت العملة معدنية، ورغم قلّة ما كنت أتقاضاه، إلا أني كنتُ أساعد أبي على حمْلهِ العائلي الثقيل.
ورغم طفولتي البسيطة إلا أنني كنت أشعر في أعماقي بأنني مسؤول، وهناك أحلام كبيرة تعتمل في داخلي، كان هناك ضوء في أعماقي، يدفعني إلى الحلم والعمل دائما، صحيح كان جسمي نحيفا، ومظهري لا يدل على القوة ولا الترف ولا الإصرار، لكنني كنت أشعر بقوة في أعماقي، وكنت أحمل معي الإصرار الذي يجعلني حالما متشبثا بما أريد، ساعيا إليه، ولا أركن إلى السكون مثل الأطفال والمراهقين الآخرين من أقاربي أو من أقراني في المحلّة والمدرسة، وكان أبي يذكر هذه الصفات الموجودة عندي للأقارب والأصدقاء...
حين كنت أسمع منه تلك الكلمات أشعر بفرح غريب، وبشعور الزهو الذي لا أستطيع أن أفسره إلى الآن، كنتُ راضيا عن نفسي وناقما ساخطا على شكلي الخارجي، كان لون بشرتي يميل إلى الاسمرار الشديد القريب من السواد، وشعر رأسي مجعَّدا، وهذا كان يشكل لي مشكلة، ويحبطني، وكنت حين أرى أحد أقراني معافى أبيض الوجه وفيه بدانة أحسده وأتمنى أن أكون مثله.
في ذلك الوقت كانت ديدان البطن تسرح وتمرح في جسدي، تأكل الطعام الذي أتناول قبل أن تستفيد منه معدتي، كنت أتناول الطعام ولا أستفيد منه، هكذا كان يقول الطبيب، وكان أبي يرى الاسمرار المشوب بصفرة شديدة في وجهي، فأشكو له آلام بطني والديدان التي كنتُ أتلمَّسها فوق جلد بطني، فأحسّها تتحرك بحرية وتأكل الطعام بشراهة حين يصل إلى معدتي.
مع ذلك كنت أذهب سيرا على الأقدام إلى مدرستي التي أصبحت بعيدة بعد انتقالنا من حي الإسكان إلى حي رمضان، وكنت أواصل العمل في المهن المختلفة التي أحصل منها على بعض النقود، وفي تلك الأيام الحالكة، كنت أيضا أحلم بـ (قبيلة)، وأتمنى أن تحبني كما أحبها.
قبل أن أصل إلى مدرستي لابد أن أقطع ثلاثة كيلومترات مشيًا، كان الجوع ينهكني، خاصة أن ديدان البطن تشاركني طعامي القليل الذي أتناوله من يد أمي، حين أصل إلى مدرستي لا أدخلها مباشرة، بل أمرّ على بيت عمّتي، أدخل البيت، أجلس في غرفة الجلوس، وعلى الفور أجد أمامي صحنا فيه رزّ و مرق وبين يديّ ملعقة فافون نظيفة، أتناول طعام الغداء اللذيذ، فقد كانت عمتي طبّاخة ماهرة، وكان أكلها فيه نكهة خاصة لم أستطع نسيانها حتى اللحظة.
وفي تلك الدقائق السريعة التي أتناول فيها الطعام قبل الذهاب للمدرسة، كانت تجلس أمامي قبيلة، تنظر في وجهي، كانت يدي ترتجف وهي ترفع ملعقة الطعام إلى فمي، أتذكر هذا جيدا، كانت حبّات الرز (التمن) تتساقط نصفها من الملعقة، كنت أشعر بالارتباك حين تنظر قبيلة لي، كانت تشجعني على تناول طعامي بهدوء، لم تقل لي ذلك بالكلمات، بل كنت أشعر بهذا من نظرات عينيها.
كانت قبيلة فتاة مؤدّبة عطوفة إلى حد غريب، وحين تخاطبني كانت تسبق اسمي بكلمة (سيد) دلالة على الاحترام، لقد ملكت قلبي وسلبت لبّي بهذا الاحترام الذي لم أجده عند أقرب الناس إليّ، شخص وحيد غير قبيلة كان قد أشعرني بهذا الاحترام سابقا، وهو صديقي الوحيد (حسنين) الذي فقدته فجأة في العطلة الفاصلة بين الصفيّن الخامس والسادس، ولم يعد لي أبدًا.
لا أبالغ إذا قلت لكم بأنني وجدتُ في قبيلة بعض العزاء بفقدان (حسنين)، هي عوضّت ذلك الاحترام الذي كنت أحصل عليه من حسنين، عوضّت الحنان الذي يحتاجه الطفل والمراهق، قبيلة هدية الله لي في وقت شحَّت فيه الهدايا الحقيقية، حيث الفقر يلتفّ حولك كالثعبان المارد، وحيث الديدان تسرح وتمرح في بطنك، تتسابق مع معدتك على تناول الطعام الشحيح أصلا...
تناولتُ صحنَ الرزّ والمرق كلّه، فرغ الصحن تماما، أكلتُ بشهية غريبة، امتلأت معدتي، هدأت الديدان التي كانت هائجة قبل وقت قليل، أحسستُ أنها (الديدان) أكلتْ ما يكفيها من الرزّ والمرق الذي تناولتهُ الآن، كان التلفاز الصغير (الأبيض والأسود) ينقل بعض الأخبار الرتيبة التي لم نكن نفهم منها شيئا ولا تهمنا في شيء.
حين انتهيتُ من طعامي قفزتُ بسرعة لأنني تأخرت عن المدرسة، فصاحت قبيلة (سيد علي لا تستعجل، سأملأ لك الصحن مرة أخرى، لابد أن تأكل جيدا قبل أن تذهب للمدرسة)... شكرتها، ونظرتُ في عينيها على استحياء، وامتننتُ منها حقا....
ظلّتْ كلمة (سيد) ترنّ في سمعي، تُضاهي كلمة أستاذ، وتُشعرني بالزهو والاحترام، كانت هذه المفردة لها نكهة خاصة عندي، ولها وقع كبير عليَّ، تجعلني أشعر بأنني إنسان محترم وذو مكانة متميزة، كانت قبيلة باحترامها لي تقمعُ حركة الديدان في بطني وتقلل آلامي وتنقذني من الإحباط الذي يلتفّ حولي، وكانت نكهة الاحترام هذه تؤكد لي بأنني أعيش في عالم مفتوح على آمال عريضة وأحلام وردية يستحقها الفقراء.
اضف تعليق