مرّت ساعتان وأكثر وأبي غائب لا نعرف عنه أي شيء، في ضحى ذلك اليوم دخل أبي الغرفة مسرعاً لاهثا، وذهب مسرعا الى سرير أخي رحيم، ألقى عليه نظرة عميقة وطويلة، ثم تساقطت الدموع بغزارة من عينيه وهو يحمد الله ويشكره وينظر من الشرفة الى مركز المدينة حيث منائر ضريح الإمام الحسين عليه السلام.
مرّت ثلاثة أيام بلياليها الثقال، قضيتها في المطعم الصغير، كان طعامي في جميع الوجبات، صباحا وظهرا وغروبا عبارة عن شيش من الكباب ورغيف خبز، قبل أن أعمل في هذا المطعم كان شيش الكباب أشبه بالحلم بالنسبة لي، لكنني في يومي الثالث بالمطعم كرهتُ هذا النوع من الطعام، وبدأ شوق غريب يجتاحني لأهلي.
ثلاثة أيام لا أعرف ما الذي جرى لهم، ماذا فعلوا في البحث عني، أمي وأخوتي وأبي، كيف أحوالهم، هل هم بخير بعد هروبي من البيت، كان غرضي من هذا الهروب أن أضع حدا لظلم أبي لأمي، وأحيانا حتى نحن الأبناء يطولنا عنف الأب، ولا أدري كيف نسيَ ظلم الاقطاعي الذي لحق به وكان سببا في تهجيرنا من قرية أم البط إلى المدينة، فمن عانى من الظلم عليه أن لا يطبقه ضد الآخرين، هكذا كنتُ أقول لنفسي.
في عصر اليوم الثالث قررت ترك المطعم والعودة إلى البيت، لم أشعر بأنني منكسر أو مخذول، أخذتُ معي كمية جيدة من الكباب لأهلي، تخيّلتُ بأنهم سيفرحون كثيرا بهذا الطعام الذي يصعب شراؤه على الفقراء، وصلتُ بيتنا عند الغروب، لم يكن باب الدار مفتوحا كما هي العادة، الباب كان مغلقا، والظلام العميق يهيمن على واجهة البيت ودواخله أيضا، هو نفس ذلك الظلام العميق المخيف الذي التفَّ حول جسد أمي حين ضربها أبي على رأسها.
هذا الظلام أكد لي عدم وجود أهلي في البيت، جلستُ عند الباب، أسترجع وجوه عائلتي، لقد اشتقت لهم حقا، حتى أبي أنا الآن في غاية الشوق له، وأتمنى رؤية وجهه وتقبيل جبينه، توقف غضبي عليه، وحلّ محله حاجة إلى رؤيتهم جميعا، أين ذهبوا، هل يُعقَل أنهم خرجوا جميعا للبحث عني، أم أن هناك خطب آخر أكثر فداحة؟
كنتُ أتطلع في الزقاق، لا شيء سوى صبغة الغروب تطلي الأشياء بلون باهت، تمنيت أن أرى أي إنسان كي أسأله عن أهلي، وبدأت أستعيد أسباب هروبي، (أبوك يريد أن يتزوج من امرأة أخرى) هكذا أخبرتني أمي، ولأنها رفضت ذلك استشاط غضبا ومد يده إلى (كِتْلي الشاي الساخن) وأطلقه على رأسها، فخرَّت ساقطة نحو الأرض وتدفق دمها من جبينها، ولم تخبرني عن السبب في وقتها، لكنها قبل هروبي بساعة، لم تستطع تخفي الأمر، إذن هو يريد أن يتزوج امرأة غير أمي، هكذا قلتُ لنفسي، وشعرت بشعلة نار تشبُّ في أعماقي، ثم أخذتني أقدامي هاربا إلى مركز المدينة.
بعد دقائق من جلوسي عند باب بيتنا، خرج شاكر من بيتهم، وهو مراهق يقترب مني بالعمر، سلّم عليَ وسألني عن غيابي، وقبل أن أجيبه سألته بسرعة ولهفة، (أين أهلي)؟، فقال: ألا تعلم، إنهم جميعا غادروا البيت بعد أن كاد أخوك رحيم يلفظ أنفاسه، نعم أنا شاهدته بنفسي، كان يتقيّأ دما، و وجهه عبارة عن كتلة من الصفار..
- وأين هم الآن؟
- في المستشفى العام
هرعتُ راكضا إلى مستشفى المدينة، كنتُ أحمل الكباب معي، ولكن فرحتي به تلاشت، هيمن قلق وخوف على كياني، وغزتني هواجس لا أعرف نوعها، ربما مات أخي رحيم، ولا أعرف كيف ولماذا، هكذا كنت أقول لنفسي، واصلتُ الركض دونما توقّف نحو المستشفى، وعند بابها، رأيت جمهرة من الناس، ونساء تولول، واصوات نحيب وبكاء لصغار وكبار، رأيت أحدهم وهو جار قديم لنا، سألته عن سبب البكاء، وقبل أن يجيبني سألته عن أخي رحيم، هل رأيته في المستشفى، أين أجده؟، فقال: أخوك موجود في الطابق الثاني، قسم باطنية الرجال، وحين سألته هل هو حي؟، صمتَ قليلا ثم أجاب بسرعة: قد لا تلحق عليه، عليك أن تسرع فحالته صعبة جدا.
في الأيام الثلاثة التي قضيتها في المطعم، حدثت مشكلة صحية خطيرة لأخي رحيم الذي يصغرني بسنتين، فقد انفجرت الزائدة الدودية في بطنه، وكان بينه وبين الموت وقت قصير، نقله أبي بصحبة أمي وأختي الكبيرة زهرة الى المستشفى الكبير في المدينة، وفورا أحاله الطبيب الى غرفة العمليات، بعد أن قال لأبي (إن نسبة نجاح العملية الجراحية 1% فقط)، وعليك أن تقبل وتضع إمضاءك هنا أسفل التعهّد، فوافق أبي على مضض، هكذا أخبرتني أختي زهرة، و واصلت قولها:
رأيت أصابع كف أبي ترتجف بشدة وهو يوقّع على قبوله بشرط الطبيب. وبعد ساعات خرج رحيم من صالة العمليات وهو بين الحياة والموت.
دخلتُ ردهة المرضى في المستشفى، رأيت أبي يجلس بعيدا، يضع يشماغه على رأسه ويغطي جبينه وعينيه، كان ينشج بصمت، ويشرع كفيّه نحو السماء، حين سمع صوتي، زادت نبرة بكائه، نهض من مكانه، فتح ذراعيه، وضمني إلى صدره وهو يردّد في أذني (رحيم سيموت)، في هذه اللحظة ركّزت بصري على وجه رحيم، إنه خليط من ألوان غريبة باهتة، كأنها ألوان الموت...
خفق قلبي بشدة حين رأيتُ أنبوبا مطاطيا (صوندة) يدخل من أنفه الى داخل بطنه، كان يؤلمه كثيرا، على الرغم من أن التخدير لا يزال مفعوله قائما، بقينا يومين في المستشفى، وكان غراب الموت يحوم فوق أخي رحيم، وأشد ما كان يعانيه آلام الأنبوب المطاط، آلام شديدة جدا على الرغم من أنه كان ذا شخصية كتومة ولا يُظهِر مشاعره للآخرين إلا ما ندر.
في اليوم الثالث كنتُ مرافقا لأخي رحيم صحبة أبي، أسهر ساعات الليل بالقرب منه، وعند الفجر نمتُ دون أن أشعر بذلك، ثم استيقظت في الساعة السابعة صباحا، لم أعثر على أبي في فراشه، كان أخي مستيقظا وعيناه نصف مغمضتين والاصفرار يجتاح وجهه، وكان يتمتم بكلمات لا أفهمها، بحثت عن أبي لم أجده، سألت الممرضين والمرضى، لكن ليس هناك من يعرف أين أبي، طلبه أخي رحيم بإلحاح عجيب، فهو لا يطمئن إلا عندما يرى أباه قريبا منه.
مرّت ساعتان وأكثر وأبي غائب لا نعرف عنه أي شيء، في ضحى ذلك اليوم دخل أبي الغرفة مسرعاً لاهثا، وذهب مسرعا الى سرير أخي رحيم، ألقى عليه نظرة عميقة وطويلة، ثم تساقطت الدموع بغزارة من عينيه وهو يحمد الله ويشكره وينظر من الشرفة الى مركز المدينة حيث منائر ضريح الإمام الحسين عليه السلام.
كان الطبيب قبل أن يدخل أبي علينا بنصف ساعة، قد رفع الأنبوب المطاط من أنف وجوف أخي وقال.. لم تعد هناك حاجة له.. أما أبي فقد غاب عنا حيث قال إنه ذهب الى الحسين منذ الفجر وطلب منه أن يخلّص رحيم من (الصوندة) وآلامها، وعندما عاد من ضريح الحسين.. رأى وجه عبد الرحيم معافى خاليا من الأنبوب المطاط الذي تسبب له بآلام مبرحة.....
اضف تعليق