ليس صعبا ولا مستحيلا عدم تكرار الأخطاء والتجاوزات الماضية التي حدثت في الموازنات السابقة، كل ما في الأمر تشريع القوانين القوية الصارمة لحفظ المال العام، ومن ثم العمل الجاد على تطبيق هذه القوانين على الجميع من دون استثناء، فأمام قانون حفظ أموال العراقيين لا يوجد كبير ولا مسؤول مستثنى...
تناقض غريب هذا الذي يحدث في ظل الموازنات المالية الهائلة التي تم ويتم التصويت عليها في العراق، عشرات المليارات من الدولارات، تتكدس في خزائن البنك المركزي العراقي، لا أحد يعرف كيف يديرها، وليس هناك بوادر واضحة للقضاء على الفوضى والفقر المترامي في الجهات الأربع للعراق، لاسيما الجنوبية منها، فالفقر بات يتصاعد مع تصاعد هذه الموازنات الكبيرة، والسبب مجهول، أو أنه يعزى إلى إساءة إدارة هذه الأموال الهائلة.
هل يظن ساسة العراق إن الأرض سوف تمنحهم المزيد من الأموال والثروات بشكل دائم ودونما توقف أو نضوب؟، كل الثروات الطبيعية ينطبق عليها قانون الانقراض كما ينطبق على جميع الموجودات، والإنسان الذي لا يستثمر ثرواته بالشكل الصحيح، سوف يأتي اليوم الذي يجد فيه نفسه بلا ثروة ولا مال، يحاصره الفقر المدقع من كل حدب وصوب، وإذا كان العراق فقيرا وهو يعيش في ظل هذه الثروات الوفيرة والكبيرة، فكيف سيكون حاله حينما تتعرض ثرواته للنضوب والجفاف التام؟
يُقال إنّ الفرص الكبيرة قد تمر لمرة واحدة سواء في حياة الأفراد أو الأمم، ونادرا ما تعود الفرص الكبيرة لنفس الشخص أو لنفس الأمة، ولذلك كان التركيز كبيرا على وجوب استثمارها قبل أن تمر من فوق الرؤوس كالسحاب، كما نبّه إلى ذلك الإمام علي بن أبي طالب إلى ذلك، فالفرص الكبيرة نادرة والتهاون معها وتضييعها يعد من الأعمال السفيهة، ويجرّنا الكلام هنا إلى الموازنات العراقية المالية الانفجارية، وآخرها الموازنة الثلاثية 2023، 2024، 2025. التي تم تمريرها بعد التصويت عليها قبل أيام من قبل مجلس النواب العراقي.
هل صحيح ضيّع العراقيون موازنات انفجارية في سنوات سابقة، وإذا كان الجواب بالإيجاب أو الموافقة، نعم لقد ضيعت الطبقة السياسية أكثر من موازنة انفجارية هباء منثورا، ولم تنعكس هذه الموازنات الهائلة على الحياة العراقية، فالخدمات أغلبها تعاني من الخلل والفشل والفوضى والضمور، الكهرباء شبه غائبة خاصة في فصل الصيف، والصناعة تترنح بسبب استمرار غلق مئات المعامل عن العمل مع تقديم الرواتب الشهرية لمنتسبيها من خزينة الدولة وأموال الشعب من دون انتاج.
أما الزراعة فهي لا تقل ضمورا وتدهورا عن المجالات الانتاجية الأخرى، على الرغم من أننا بلد زراعي بامتياز، وهكذا تم إهدار مئات المليارات من الدولارات بسبب سوء الإدارة المالية، والقصدية المسبقة في تضييع أموال العراقيين وسرقتها.
ولنقل أن ما فات فات، وأن أخطاء الماضي للناس الأحرار العقلاء تصبح دروسا مهمة، حتى يتحاشى العراقيون تكرارها، فهل يُعقل مثلا أن الميزانية الثلاثية الانفجارية تضيع هدرا كما ضاعت سابقاتها؟، وهل يقبل المسؤولون (قادة الدولة بمختلف عناوينهم ومسمياتهم ومراكزهم الوظيفية) بهدر عشرات المليارات من الدولارات مرة أخرى.
الجواب المنطقي أن ما يجب أن يتم هو التعلم من هدر الموازنات السابقة، لاسيما أن العراق بات اليوم على المحك، فهو يعاني من الفقر المدقع، ويعاني من شح المياه بسبب التغيّر المناخي، ويعاني من مشكلة الهجرة السكانية الخطيرة من الريف إلى المدن، فإذا لم يتم التعامل مع هذه المشكلات بطريقة جادة وعلمية، فإنها سوف تتسبب بأخطار جسيمة تتهدد حياة العراقيين، ولا نبالغ إذا قلنا قد نصل إلى درجة التهديد المصيري الوجودي.
لهذا من الحتمية بمكان أن يتم استثمار الميزانية الثلاثية الجديدة أقصى الاستثمار، وأن يُصرف كل دينار أو دولار منها في مكانه الصحيح، ومن المهم أن يقر الساسة العراقيون، بأن هذه الميزانية هي الفرصة التي لن تتكرر لتصحيح الأمور الاقتصادية وإعادتها إلى نصابها الصحيح، وعليهم جميعا أن يسعوا إلى عدم تكرار حالات الهدر المالي الواسعة كما حدث في الميزانيات الانفجارية السابقة.
ليس صعبا ولا مستحيلا عدم تكرار الأخطاء والتجاوزات الماضية التي حدثت في الموازنات السابقة، كل ما في الأمر تشريع القوانين القوية الصارمة لحفظ المال العام، ومن ثم العمل الجاد على تطبيق هذه القوانين على الجميع من دون استثناء، فأمام قانون حفظ أموال العراقيين لا يوجد كبير ولا مسؤول مستثنى ولا أي سياسي مهما كانت صفته وعنوانه، وليكن شعار المرحلة القادمة قولا وفعلا (لا للتجاوز على أموال العراقيين مطلقا).
اضف تعليق