q

لا يماري أحد في أن الاعمال الكبيرة إنما تتحقق على أيدي كثيرة، مروراً بتظافرة الجهود واجتماع الطاقات والقدرات في بوتقة واحدة، لاسيما اذا كانت سريعة النتائج وذات مردود انساني ومادي على العاملين، مثل بعض المشاريع الخيرية او الاعمال الثقافية ذات الطابع  الجماهيري، بيد أن المشكلة تظهر على السطح في المشاريع والاعمال ذات الطابع الاستراتيجي بعيد المدى، يبدأ التطيّر (التشاؤم) بالنجاح، والعلّة في ذلك، انفضاض الطاقات والقدرات عن هكذا نوع من العمل، كأن يكون على صعيد التنمية والتطوير والبناء الفكري والثقافي والاجتماعي. ثم يبدأ الحديث عن عدم امكانية النجاح لصعوبة المهمة وعدم تحملها من المجموع، حتى وإن بادر اليها شخص ما، تنطلق نحوه نظرات التشكيك الحادّة، بل ربما اصابع الاتهام والقدح في النوايا والاهداف...!

هذه الظاهرة يعالجها سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي في كتابه "وصولاً الى حكومة اسلامية" يطالب سماحته النخبة المثقفة والمسؤولية بـ "تضافر الجهود" لتحقيق هذا الهدف الكبير، بما يعني تجنب التفكير بالجهود الفردية مهما كانت، وعدم اتخاذها الشماعة للتنصّل من العمل على المشاريع الكبيرة ذات الابعاد الاستراتيجية (الحضارية)، مثل التعايش والسلم والحرية مع الكرامة الانسانية وما أشبهها.

وفي سياق مناقشته امكانية تشكيل حكومة اسلامية تضم شعوباً وبلاد متعددة الاعراق واللغات والثقافات، فانه يفند كل الحجج الواردة على سبيل استحالة تحقيق ذلك في الوقت الراهن – على الأقل حسب زعمهم- ويورد أمثلة عديدة من العالم المعاصر، وكيف أن قادة انطلقوا من مجهود بسيط وهدف كبير، لكن بجهود متضافرة من الجموع، وتم تشكيل حكومات،  اصبحت فيما بعد دولاً كبرى على الخارطة لم تكن من قبل، مثل الصين والهند.

فالقائد الصيني الشهير "ماوتسي تونغ" بدأ مشواره بالفشل والهزيمة عندما بادر على تشكيل جيش ثوري قائم على عمال المناجم والفلاحين، ونظم انتفاضة مُنيت بالفشل، كلفته على الصعيد الشخصي إقصاءه من الحزب الشيوعي، وتجريده من مسؤولياته كلها، ثم فراره إلى الجبال، وهناك أسس عام 1927م قاعدة سوفيتية، فبادر إلى عملية توزيع الأراضي والأسلحة على الفلاحين جاعلاً من اتحادات الفلاحين الأداة الأولى للحكم. وفي عام 1935م تسلّم ماو، زمام قيادة الحزب مرة أخرى وترأس المكتب السياسي، في عام (1949م) أعلن قيام جمهورية الصين الشعبية، وأصبح رئيساً للحكومة ورئيساً للحزب ورئيساً للجمهورية.

وهذا يصدق أيضاً على الولايات المتحدة الامريكية وكندا ودول اخرى يمكن عدّها نموذجاً يحتذى به لقيام حكومة مترامية الاطراف في اطار نظام ومنهج واحد للحكم، مع اعطاء مساحات واسعة للاستقلالية الادارية حسب المساحة الجغرافية.

فاذا كانت الأمة بحاجة اليوم وكل يوم، الى المشاريع ذات البعد الاستراتيجي في البناء والإصلاح والتغيير، فانها تبعاً لذلك بحاجة الى نفوس كبيرة تعي المرحلة وتتطلع الى آفاق المستقبل، فالمعروف أن البلاد الاسلامية مشحونة بالقدرات والطاقات المادية والعلمية، فهنالك العقول المبدعة والثروات والتاريخ الحافل بالتجارب والعبر، وأكثر من كل ذلك؛ النماذج والصور العملية الباهرة القابلة للتكرار في كل زمان ومكان. كل ذلك موجود، سوى المبادرة العملية على ارض الواقع.

وإذن؛ نحن أمام أزمة نفسية – الى حدٍ ما- هي التي تخلق الجدار الفاصل بين الفكرة والنظرية وبين التطبيق العملي، وبين الفرد والجماعة، وحتى بين الشعب والقاعدة وبين القيادة. لذا يتساءل سماحته في هذا الاطار: "...فهل تتصورون أن زعماء الكفر يديرون أمورهم في بلادهم وحتى مخططاتهم في بلادنا، أوحاداً منفردين؟! أبداً، وهذا التصور غير صحيح، فإن أغلب الأمريكيين ـ مثلاً ـ عملوا مع زعمائهم ورؤسائهم الذين جاءوا إلى دفة الحكم، و أوصلوا أمريكا (...) إلى ما هي عليه اليوم من التطور والتقدم التقني والصناعي وما أشبه. وكذلك في سيطرتهم على العالم"، كما يستشهد سماحته باليهود،وكيف أنهم عملوا يداً واحدة وأوجدوا الصهيونية في فلسطين المحتلة وفي العالم.

وهذا يعطينا المصداق للحديث النبوي الشريف: " كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته". هذه المسؤولية التي يتحدث عنها الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، لا تنحصر في إطار النصيحة وحسب، إنما هي جزء من منظومة ثقافية متكاملة يفترض ان تجد مكاناً في نفس كل فرد من افراد المجتمع، وكلما اتسعت مساحة هذه المنظومة في افراد المجتمع، كلما زاد احتمال النجاح لمشاريع وأعمال كبيرة على صعيد البلد الواحد وحتى الأمة بأسرها.

من هنا؛ فان إقامة الحكومة الاسلامية الواحدة على رقعة جغرافية واحدة تضم البلاد  الاسلامية، كما كان طموح سماحة الامام الراحل – قدس سره- وكذا الطموحات التي تحملها الأمة ليس أقلها الحرية والعدالة والكرامة الانسانية، بحاجة الى تفكير جماعي، يشمل هموم الأمة، وليس همّاً شخصياً او فئوياً، ثم عمل جماعي يخترق كل الحواجز النفسية ويتجاوز تجارب الفشل والهزيمة وصولاً الى النجاح.

اضف تعليق