من المتوقع أنك لاحظت انساناً متعلما، بمعنى انه حاصل على شهادة عليا، لكنه قد يفتقر للعمق الثقافي، حيث يتضح هذا في طبيعة سلوكه وافكاره وعلاقاته، كذلك ربما صادفك انسان لم يحصل على فرصة التعليم الجيدة، لكنه يبدو مكتنزا من الناحية الثقافية، ويبدو للجميع ذا فكر وسطي متوازن...
مفردة الافتراس توحي بأنها مختصة بالحيوانات المفترسة، ولكن بعض الثقافات المتطرفة قد تصنع بشرا أكثر افتراسا للناس من كائنات الغابة المختلفة، هكذا يمكن أن تؤثر الثقافة على الإنسان، فأما أن يكون حملا وديعا حكيما متوازنا، وأما أيكون وحشا مفترسا.
من المتوقع أنك لاحظت انساناً متعلما، بمعنى انه حاصل على شهادة عليا، لكنه قد يفتقر للعمق الثقافي، حيث يتضح هذا في طبيعة سلوكه وافكاره وعلاقاته، كذلك ربما صادفك انسان لم يحصل على فرصة التعليم الجيدة، لكنه يبدو مكتنزا من الناحية الثقافية، ويبدو للجميع ذا فكر وسطي متوازن، واستنادا الى الجذر الثقافي الذي يتحلى بالوسطية، ستجد انه مكتمل الصفات والسجايا في جانبيّ السلوك والتفكير.
من ناحية أخرى ربما لاحظنا أشخاصا يعلنون الوسطية الثقافية، والمعرفة المعتدلة أو المتوازنة، لكن سلوكهم مع الآخرين وطرائق تفكيرهم وحتى أقوالهم تفنّد وسطيتهم الثقافية، وهذا يؤكد بأن الفعل الثقافي أن الثقافة لا علاقة له بالتبجح، وانما هو جذر ثقافي ينعكس في طبيعة سلوك الانسان وتعامله مع الآخرين.
يُضاف إلى ذلك منهجه الفكري ومخرجات هذا المنهج والنتائج التي تتمخض عنه، وهذه المخرجات تتبع الجذور الثقافية التي نمت وترعرعت في تربة الشخصية، ولا يمكن تغييرها بالقول المتبجح أو التصريحات التي تنافي ما يجري في الواقع.
الحدّية التطرف الانغلاق؟
لهذا فإن المطلعين الفاعلين والمختصين المعنيين بالثقافة الوسطية من حيث تأثيرها ونتائجها، يؤكدون على أن الجذور المعتدلة للإرث الثقافي الوسطي، تُسهم بقوة في عمليات التغيير الذاتي والمجتمعي والفردي في الوقت نفسه، أي أنه اذا لم تسهم الثقافة في تغيير الفرد والمجتمع، فإنها تبقى ناقصة وعليلة، أو أنها تقود من يؤمن بها في الطريق الخاطئ.
لهذا يجب أن يتجنب الفرد والمجتمع الثقافة الحدّية، المتطرفة، والمغلقة، فهي غالبا تتسبب في الصراعات والنزاعات التي تشغل الناس عمّا هو أهم، وتجعل سلوكهم وحتى ألفاظهم تكون أكثر ميلا للخشونة والتنمّر، وهذا يجعل من الفرد والمجتمع في حالة تشنج واحتقان وتوتر، وغالبا يكون على استعداد للصراع، بسبب حدّية الثقافة والمنهج، وهو ما حذر منه حكماء الفكر وأرباب الثقافة الوسطية العميقة الرائية وليس السطحية.
لذا لا يمكن أن نطلق على الثقافة هذا المفهوم الفاعل والكبير، ما لم يكتسب الفعل الثقافي قوة التأثير في تحسين حياة الانسان، ومن البديهي ان العمق الثقافي للفرد سوف ينعكس على المحيط الاجتماعي أو العملي الذي ينتمي إليه، وينشط فيه بأي مجال كان.
وهذا يدل بشكل قاطع على أن الانسان الذي يتميز بالثقافة الوسطية العميقة، لابد أن يكون ذا تأثير ممتاز وفاعل في أفراد عائلته وكل المقربين منه، كالمحبط المدرسي مثلا، لهذا يطالب المصلحون والفلاسفة الإنسانيون، بأهمية اكتساب العمق الثقافي الوسطي البعيد عن الانغلاق والحدية والتطرف.
في حال ينعدم العمق الثقافي الوسطي، فهذا دليل على مرض الجذور التي استقى منها الإنسان ثقافته، لهذا يكون الإنسان غالبا ذا تفكير ومنهج سطحي وساذج، ويكون أيضا سريع الانفعال، وردود أفعاله متشنجة وغير عقلانية ولا مقبولة، أو قد يكون متسرع في رد الفعل السلوكي، وهذا دليل آخر على غياب الوسطية الثقافية عند الفرد، وكذلك غيابها عن بيئته الاجتماعية التي ترعرع فيها، وأخذ منها منهجه.
الوسطية الثقافية والنجاة من التطرف
ونظرا للتقدم السريع الذي يتميز به عصرنا الراهن، فإن الثقافة الوسطية العميقة، اصبحت من مستلزمات المضي قُدُما إلى أمام والاصطفاف مع الأمم التي تتبارى في صنع الحضارة، وتسهم في تطوير الثقافة الإنسانية الصحيحة، وتقلل إلى أدنى حد من غلواء الجشع والافتراس البشري المتبادَل.
ولكي لا يبقى الفرد والمجتمع في آخر الركب، لأننا نلاحظ المجتمعات المتأخرة تعيش في واد والعالم المتقدم يعيش في واد آخر، والسبب الأكيد كما هو واضح، قصور الثقافة وعجزها في المجتمعات المتأخرة، بسبب غياب الوسطية فيها، والميل الشديد نحو التطرف، والافتقار للعمق الثقافي والوسطية التي ثبت جدواها من خلال التجارب الثقافية الناجحة في العديد من الأمم، بالإضافة إلى التجارب التي نجدها في الحلقات المشرقة من تاريخنا الإسلامي.
ولا شك اننا نتابع أنشطة ثقافية متعددة، رسمية او سواها، أي أن هناك منظمات ثقافية مدنية تتحرك باتجاه تطوير المجتمع، ولكن في حقيقة الامر يفتقر هذا الجهد للتناسق والتخطيط المسبق، فضلا عن افتقاره للجوهر او العمق، حتى يكون مؤثرا وفاعلا في المحيط الذي يتحرك فيه او يستهدفه.
من هنا لابد أن تكون ثقافتنا وسطية مضيئة ومنهجيتها واضحة، وتنأى بنفسها عن التطرف والانغلاق، ودائما تجدد جذورها وتحمي نفسها من السقوط في فخ التسرع والتسطيح والانفعالية الغارقة في الجهل والظلام، وهو ما يساعد في بناء شخصية متوازنة أقرب إلى التعقل والحكمة من سواها.
اضف تعليق