q

يحيل كثير من المعنيين أوضاع العراق، وما آلت إليه من ضعف وتخبّط، إلى ضعف القانون الوضعي، وعدم قدرة الأجهزة المعنية على تطبيقه، بخصوص مكافحة الفساد والمفسدين، وإدارة البلاد بطريقة سليمة، فقد تحول هذا البلد إلى شبكة من فساد، كبيرة ضربت جذورها في أعماق النسيج الحكومي والمجتمعي، حتى شملت مفاصله كافة، بحيث أصبح الخلاص من هذه الآفة أمر في غاية الصعوبة، بل يذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك، فيرون أنه من المستحيل القضاء على آفة الفساد في العراق بعد اليوم؟!.

وفي ظل الأوضاع المتردية التي يعيشها العراقيون، ومع تراجع قدرة السلطة على حفظ هيبة الدولة، ومع الضعف الذي ينتاب الأجهزة المعنية بمكافحة الفساد، ونعني بها دور القضاء التي لم تعد قادرة على القيام بدورة بشكل حاسم، لابد من إيجاد البدائل والحلول اللازمة التي تتمكن من وضع حد لتفشي وباء الفساد في البلاد.

ومع علمنا وإيماننا أن لا بديل لسلطة القضاء في الدول الدستورية المعافاة، إلا أن بلدا مثل العراق، ينتابه التمزق حاليا، وتعيث به الفوضى فسادا، ويتراجع فيه القانون سنوات ضوئية الى الوراء، ليس أمام أولي الأمر والمسؤولين عن قيادة الشعب والبلد الى بر الأمان، سوى الشروع الفوري بتحديد الخطوات الإصلاحية المقارعة لشبكات الفساد، واتخاذها بشكل فوري، وليس هناك من جهة قادرة على اتخاذ مثل هذه الخطوات العملية الفورية في العراق، سوى المرجعية، كي تبدأ بالردع الشرعي الذي يعيد الأمور إلى نصابها.

أخطاء ومخاطر كبيرة

وبالفعل قامت المرجعية الشريفة بهذا الدور طيلة متابعتها لما يجري في العراق، وطالما نبّهت القادة السياسيين على الأخطاء والمخاطر الكبيرة التي تحدث في البلد وفي المؤسسات الحكومية وسواها، والتي غالبا ما يتسبب بها هؤلاء السياسيون أنفسهم أو أتباعهم من خلال الإجراءات الإدارية التي تتجاوز على القانون والمال العام، وما شابه من حالات احتيال وصفقات مشبوهة، تؤدي إلى التجاوز على أموال الشعب، لتزداد نسبة الفقراء وتصبح في حالة تصاعد يوما بعد آخر، فيما يتنعّم السياسيون أنفسهم، وعائلاتهم في أرقى حالات الترفيه المصنوعة من المال العام تجاوزا وفسادا.

لذلك ظهر بشكل واضح دور المرجعية في هذا المجال، طيلة السنوات التي مرت من عمر العملية السياسية في العراق، وقامت المرجعيات الدينية بدورها من خلال تأشير مكان الخطأ والخطر، وتصحيحها، وتقديم الحلول والمقترحات لأصحاب الشأن،، من اجل الشروع بمعالجتها بصورة صحيحة ومناسبة، لأن الأضرار الناتجة عن أخطاء السياسيين وتصاعد الفساد، لا يتحملها سوى أبناء الشعب، وخاصة الطبقة الفقيرة منه.

وكان للردع الشرعي ولا يزال دوره في تصحيح الأوضاع، وحث القادة السياسيين على معالجة الفساد بالسبل والطرق الرادعة له وللقائمين عليه والمشجعين عليه، فكانت ولا تزال الخطب التي يلقيها المراجع العظام في أيام الجمع، تحمل معها الكثير من التأشيرات، والخطوات التصحيحية الحاسمة في معظم الأحيان، لدرجة أن المرجعية أعلنت بوضوح تام للقادة السياسيين (أن صبر الشعب له حدود)، ولا يمكن القبول بالأوضاع السائدة المتردية إلى الأبد.

كذلك هناك إعلان واضح من المرجعية الشريفة بأنها تقف الى جانب القادة السياسيين للشروع الفوري في القضاء على الفساد، وتقديم الخدمات الأساسية الى الشعب، ومعالجة الإخفاقات في مجال الخدمات وما شابه، ولابد أن يتم ذلك بإعلان أسماء الفاسدين (الحيتان الكبيرة) والتصدي لهم بقوة وحزم، وأعطت المرجعية الشريفة الضوء الأخضر للقادة المسؤولين عن إدارة البلاد، بحتمية اتخاذ الخطوات الفورية الرادعة للفاسدين كافة وبأقصى درجة من الحزم.

موقف المرجعية بالغ الوضوح

وعندما يقوم المراجع العظام بإعلان موقفهم بهذا الوضوح، فهذا يعني أن الردع الشرعي بلغ أقصى درجاته، وأن المرجع العظام، مع أنهم أعلنوا في مرات كثيرة ومتكررة عدم قبولهم على الأداء السياسي والاقتصادي للسياسيين والقادة، إلا أن تنبيهات المرجعية لم يتم أخذها مأخذ الجد، وظلت الطبقة الحاكمة مشغولة بمصالحها وصراعها على المناصب والامتيازات، فيما بقي الشعب يعاني من الفقر ونقص الخدمات.

حتى جاءت اللحظة الحاسمة مع الارتفاع غير المسبوق لدرجات الحرارة التي قارب، بل فاقت نصف درجة الغليان في معظم الأحيان، لتشعل فتيل المظاهرات الشعبية في جنوب البلاد (البصرة والناصرية والعمارة)، لتنتقل الى العاصمة ثم محافظات الوسط كافة، ولتشكل (ناقوس خطر مبكر) للسياسيين، كما وصفها رئيس الوزراء حيدر العبادي، من لدن الشعب الذي لم يعد قادرا على التحمّل والصبر أكثر، على الأوضاع المتردية للبلاد بسبب الفساد.

وهنا ظهرت نقاط ضعف القانون بصورة أكثر وضوحا من ذي قبل، لدرجة أنها أوضحت نقاط ضعف القضاء نفسه، إذ ليس بمقدور القضاء معالجة الفساد الضاربة جذوره في أعماق النسيج الحكومي، بالإضافة إلى ضعف السلطة التنفيذية على تفكيك شبكات الفساد، أو رصد الصفقات المشبوهة بين السياسيين وبعضهم، لاسيما أن هناك منهم تجارا وأصحاب شركات ومشاريع اقتصادية استثمارية، الأمر الذي يجعل من عملهم السياسي مرهونا بكثير من حالات التوافق والصفقات الفاسدة، التي تفسد بدورها اقتصاد البلد، وتعبث بالمال العام لصالح السياسيين وذويهم.

هذه الشبكة المعقدة المتداخلة بين إدارة البلاد سياسيا، وبين الاقتصاد وعمليات الاستثمار وما شابه، أتاحت لشبكات الفساد ان تتسلل للنسيج السياسي وأن تنمو وتستفحل، وتعيث فسادا في المال العام، حتى بات قادة البلد عاجزين عن إصلاح الأمور بسبب تدهور قوة القانون إلى أقصى الدرجات ضعفا، لذلك كان دور المراقبة الشرعية والردع الشرعي حاضرا على الدوام.

وآخر هذه المؤشرات، ما أعلنته المرجعية بصورة واضحة لا تقبل الشك، عن حتمية الضرب بيد من حديد على أيدي الفاسدين والمفسدين، وهذا بمثابة الضوء الأخضر للسلطة التنفيذية وللقضاء، بالمبادرة الفورية بمعالجة الأوضاع الفاسدة في البلاد، قبل أن يحدث الطوفان الذي سوف يجرف الجميع إلى النهاية التي لا يُحمد عقباها.

اضف تعليق