حين انتهت المديرة من حكاية الطفلة، شكرتُها وأشدتُ بها وبدورها وإنسانيتها، ثم سألتُ نفسي، كيف يمكن لامرأة أن تتفرغ لكل هذه التفاصيل المتعِبة، تنظّمُ مدرستها وبيتها، وتهتمُّ بطالباتها وتنشغل بهم، وتجعلُ من غرفتِها، غرفةً فريدة من نوعها، من حيث التنظيم والمرونة والتنسيق والنظافة والذوق وكأنها (غرفة حياة)...
لم تكن غرفة لإدارة مدرسة فيها المئات من الطلبة، بل غرفة تشعّ إنسانية وتنظيما، كل شيء في هذه الغرفة التي أجلس فيها الآن، يدل على ذوق، وتنظيم، وبراءة، ودقة في الإنجاز، وكل هذه المعاني والأعمال مغلّفة بإنسانية التعامل المهذَّب، جلستُ في غرفتها مبهورا، وسألتُ نفسي هل هي مديرة مدرسة أم مديرة حياة؟؟
دخلتُ غرفة المديرة لإنجاز شأن يخصّ حفيدتي الطالبة في هذه المدرسة الابتدائية، لم أكن أتوقّع أن الإنسان بإمكانه التحكّم بالمكان إلى هذه الدرجة من الذوق والجمال والإتقان، كنتُ أدورُ ببصري على موجودات غرفة المديرة، غارقا في دهشة غريبة، والكلمات المتبادَلة بين الطلبة والمديرة تتدفق نحو سمعي فتملأ نفسي بالهدوء والامتنان.
رحتُ أتابع أسلوب المديرة في الإدارة والحوار المرن مع الآخرين، في الأثناء دخلت للغرفة طالبة عمرها ست سنوات، بدت تتعامل بثقة تامة مع مديرة مدرستها كأنها أمها، نطقت بكلمات مبعثرة، ثم أعادت صياغتها (ست هناك طفلة تبكي في الصف الثاني، وأخرى تتألم في الصف الأول) أجابتها المديرة بكلمات رقيقة مشجّعة وشكرتها وقالت لها سوف أقوم باللازم، ثم خرجت الطفلة من غرفة المديرة إلى صفّها.
حين تفرّغت لي المديرة، لم أبدأ بشأن حفيدتي، وإنما أشدتُ بطريقتها وأسلوبها في التعامل مع الطلبة الصغار، وأشرتُ إلى التنظيم والمرونة والذوق في تهيئة وإعداد الغرفة وكأنها إحدى غرف منزل المديرة، ثم سألتها عن الطفلة الصغيرة التي أخبرتها عن الطالبة التي تبكي والطالبة الأخرى التي تتألم، وهل أنتِ أمها؟؟
تبسّمت المديرة وقالت: كل الطلاب في المدرسة هم أبنائي وبناتي، هي ليست ابنتي الحقيقية، لكنها أصبحت تنظر لي وتتعامل معي كأنني أمها، وأكملت المديرة كلامها: لهذه الطفلة حكاية طويلة إذا كان لديك الوقت سوف أحكيها لك، فأخبرتها أنني لي رغبة بسماع حكاية الطفلة، قالت مديرة المدرسة:
ذات يوم سمعتُ صراخا قويا لطفلة عند باب المدرسة، نظرتُ من خلال نافذتي المطلّة على الباب الخارجي للمدرسة، فرأيت رجلا يضرب طفلة ضرباً مبرّحا، كأنه في صراع مع رجل نظير له في القوة والطول والقدرات العضلية، قفزتُ من مكاني راكضة نحو الباب الخارجي، رأيت الرجل يرفع الطفلة إلى الأعلى ويصفقها بالأرض، ثم يدحرج جسدها يمينا وشمالا، ويشدّ شعر رأسها بقسوة هائلة، حين وصلتُ رميت نفسي على الطفلة وهي ممدّدة على التراب، غطّيتُ جسدها بجسدي فتوقّف الرجل عن ضربها، كان لهاثه عاليا وأنفاسه متلاحقة وجبينه يتصبّب عرَقا، والزبد يتدفق من فمه، نهضتُ ووضعتُ الطفلة خلف ظهري، وحين عرفتُ أنه أبوها، طلبتُ منه المغادرة فورا، فيما تمسكت بي الطفلة بقوة بعد أن شعرتْ أنني قمت بحمايتها وخلّصتها من ضرب وقسوة أبيها، لصقتْ جسدها بجسدي ودخلت معي إلى المدرسة، ثم دخلنا معا غرفة الإدارة وجلستُ وراء مكتبي وجلبتُ لها مقعدا وضعته إلى جانبي وطلبتُ منها أن تجلس فيه، ثم بدأتُ أرتّبُ شعرها وقميصها وأنفض التراب عن تنورتها، سرعان ما اطمأنتْ وهدأت وانتظمت أنفاسها كأنها نسيت ما حدث لها تماما.
في هذه الأثناء دخلت علينا امرأة حين رأتها الطفلة بكت وتمسكت بي، قدمت المرأة نفسها بأنها أم الطفلة، فطلبتُ منها أن تخبرني بسبب ضرب الأب لهذه الطفلة، بدأت الأم تقص ما حدث، قالت: لقد عجزنا عن إقناع طفلتنا بالدخول إلى المدرسة، وقد ترك أبوها عمله وتفرّغ لإقناعها حتى أنه جاء معها أسبوعا كاملا إلى المدرسة، لكنها ما أن تصل إلى باب المدرسة حتى تبدأ بالصراخ العالي وتفرّ من أيدي أبيها فيركض وراءها ويحاول إقناعها بالدخول، لكنها ترفض وتبكي وتشد بشعرها وتمزق قميصها، فاضطر أبوها أن يشتري لها عدة قمصان بسبب تمزيقها لها، وكنتُ أحضر مع زوجي حين نأتي بها إلى المدرسة لكنني عجزت عن ذلك وتركت أباها يتكفّل بها، وهذا اليوم نفذ صبر أبيها وبلغ نهايته، وأخذ يضربها بعنف بسبب رفضها منذ سبعة أيام الدخول للمدرسة وفشل جميع محاولاته بإقناعها.
تواصل المديرة كلامها: الآن مضى عليها شهر في الدوام المتواصل، لم تتأخر يوما واحدا عن الحضور، ولم يجلب أحد للمدرسة لا أبوها ولا غيره، تأتي بمفردها وتدخل غرفتي مباشرة وتسحب المقعد المخصص لها وتجلس إلى جانبي وتقبلني وتتودّد لي وتخبرني بكل ما يحدث لها، وأصبحت تطمئن لي أكثر من أمها، وأصبحت تقوم بمهمة إخباري عن أية طفلة تتعرض للضرب أو الألم حيث تأتي مسرعة وتخبرني بأن طفلةً في الصف الفلاني تبكي، أو تتألم، أو أنها تعرضت للظلم، ولم أطلب منها أن تقوم بذلك، لكن يبدو أنها رشَّحت نفسها للقيام بهذه المهمة بعد أن صارت تنظر لي المنقذة للطالبات من الآباء القساة.
حين انتهت المديرة من حكاية الطفلة، شكرتُها وأشدتُ بها وبدورها وإنسانيتها، ثم سألتُ نفسي، كيف يمكن لامرأة أن تتفرغ لكل هذه التفاصيل المتعِبة، تنظّمُ مدرستها وبيتها، وتهتمُّ بطالباتها وتنشغل بهم، وتجعلُ من غرفتِها، غرفةً فريدة من نوعها، من حيث التنظيم والمرونة والتنسيق والنظافة والذوق وكأنها (غرفة حياة).
اضف تعليق