يرصد المهتمون وخصوصا علماء الاجتماع والنفس، علامات ومؤشرات دامغة تؤكّد قلق الإنسان على حاضرة ومستقبله، وهذه الظاهرة تكاد تكون ذات طابع عالمي، بمعنى ليس هناك أمة أو مجتمع في منجى من هذا الشعور الثقيل، مما يؤكد تزعزع ثقة البشر بحكوماتهم، وبالشركات الاحتكارية، وبالتعامل المسيء والمستمر للتعامل مع ثروات الأرض...
يرصد المهتمون وخصوصا علماء الاجتماع والنفس، علامات ومؤشرات دامغة تؤكّد قلق الإنسان على حاضرة ومستقبله، وهذه الظاهرة تكاد تكون ذات طابع عالمي، بمعنى ليس هناك أمة أو مجتمع في منجى من هذا الشعور الثقيل، مما يؤكد تزعزع ثقة البشر بحكوماتهم، وبالشركات الاحتكارية، وبالتعامل المسيء والمستمر للتعامل مع ثروات الأرض، أو ظواهر المناخ وإساءة استخدام الصناعة للطاقة.
هذه الظاهرة من الممكن رؤيتها عند الناس البسطاء ذوي الدخل المحدود أو المتوسط، وقد يكون هذا مبرَّرا بسبب ضيق الحال، وصعوبة العيش ورداءته، ولكن ما هو المبرر الذي يدفع بالإنسان الغني للخوف من واقعه ومن المستقبل القادم؟؟
قد نجد عذرا لمن يكدح طوال ساعات النهار لكي يؤمِّن رزق عائلته، ولكن ماذا نقول للإنسان الخائف من يومه وغده وهو يتحصّل على أموال كبيرة أو لا بأس بها؟
لماذا يسيطر الشعور بعدم الأمان على الناس، ولماذا قلّت الثقة بالآخرين، ثم لماذا هذا التكالب على المصالح والمغانم والفرص بطرق ليست صحيحة، وبغياب شروط المنافسة الشريفة، في بعض دوائر الدولة يوجد موظفون لعوائل بكامل أفرادها، وعلى العكس من ذلك تجد عوائل لم يحصل أي فرد منها على وظيفة، مع العلم أن المؤهلات الموجودة عند أفراد الأسرتين متساوية أو متقاربة.
هذا الإجحاف في توزيع الفرص هو الذي أسهم بإيجاد التفاوت الطبقي، وبزرع الخوف في نفوس الناس من الحاضر والمستقبل، حتى هؤلاء الحاصلون على فرص عمل ويتنعمون برواتب شهرية مجزية، تجدهم خائفين، وقليلي الثقة بالآخرين، ويتطلعون لفرص أخرى لجمع المال هي ليست من حقّهم، وهناك أناس أحوج منهم، فلماذا هذا الاستئثار والتهافت على فرص الآخرين؟؟
قلّة إيمان الناس، وتفاقم النزعات المادية، قتلت روح العدالة فيما بينهم، وألغت شعورهم بالآخرين، وانتزعت الإنصاف وروح الرحمة من قلوبهم، وهذه الظاهرة تكاد تكون عالمية، إلا أن الدول والمجتمعات الغربية والشرقية الغنية سبقتنا إلى هذه النزعة، لأنها جزء من ثقافاتها وسلوكها، أما مجتمعاتنا وأناسنا الذين تميزوا سابقا بالبساطة والإيمان والثقة، لم يعودوا كذلك للأسف وهناك أسباب تقف وراء ذلك.
انكشاف الثقافات على بعضها
أولها تداخل الثقافات وانكشافها بعضها للبعض الآخر، فلم تبق حدود فاصلة بين القيم والثقافات، وفقراء ومؤمنو الأمس جرفتهم سيول الثقافات الوافدة، والسلع الانتاجية التي أغرقت أسواقهم ومدنهم وبلدانهم، وصارت النزعة الاستهلاكية لديهم تتقدم على الإيمان والاطمئنان، من الصعب أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه، فهذا الهدف الكبير يحتاج إلى إرادات وعقول وقيادات كبيرة، تجعل الناس يطمئنوا على حاضرهم ومستقبلهم.
ورد في إحدى الحكايات الحقيقية، أن هناك رجلا بسيطا كان يرعى غنماً لأحد الأغنياء ويأخذ أجرته يومياً بمقدار خمسة دراهم، وفي أحد الأيام جاء الغني إلى الراعي ليخبره أنه قد قرر بيع الغنم لأنه يود السفر، وبالتالي فقد استغنى عن خدماته وأراد مكافأته فأعطاه مبلغاً كبيراً من المال، غير أن الراعي رفض ذلك وفضّل أجره الزهيد الذي تعوّد أن يأخذه مقابل خدمته كل يوم والذي يرى بأنه يمثل مقدار جهده، ولا يريد أن يأخذ أموالا دونما عمل.
وأمام اندهاش الغني واستغرابه أخذ الراعي الخمسة دراهم وقفل عائداً إلى بيته، ظل بعدها يبحث عن عمل ولكنه لم يوفق وقد احتفظ بالخمسة دراهم ولم يصرفها، أملاً في أن تكون عوناً له يوماً من الأيام.
رزقكم في السماء
وكان هناك في تلك القرية رجل تاجر يعطيه الناس أمولاً فيسافر بها ليجلب لهم البضائع، وعندما حان موعد سفره أقبل عليه الناس كالمعتاد يعطونه الأموال ويوصونه على بضائع مختلفة، فكَّر الراعي في أن يعطيه الخمسة دراهم علَّه يشتري له بها شيئاً ينفعه، فحضر مع من حضروا، وعندما أنصرف الناس عن التاجر أقبل عليه الراعي وأعطاه الخمسة دراهم، سخر التاجر منه وقال له ضاحكاً: ماذا سأحضر لك بخمسة دراهم؟
فأجابه الراعي: خذها معك وأي شيء تجده بخمسة دراهم أحضره لي .
استغرب التاجر وقال له: إني ذاهبٌ إلى تجار كبار لا يبيعون شيئاً بخمسة دراهم هم يبيعون أشياءً ثمينة .
غير أن الراعي أصرَّ على ذلك وأمام إصراره وافق التاجر على طلبه.....
ذهب التاجر في تجارته وبدأ يشتري للناس ما طلبوه منه كلٌ حسب حاجته، وعندما انتهى وبدأ يراجع حساباته لم يتبقَ لديه سوى الدراهم الخمسة التي تعود للراعي ولم يجد شيئاً ذا قيمة يمكن أن يشتريه بخمسة دراهم سوى قِطّ سمين كان صاحبه يرغب ببيعهِ ليتخلص منه، فاشتراه التاجر للراعي وقفل راجعاً إلى بلاده.
وفي طريق عودته مرَّ على قرية فأراد أن يستريح فيها، وعندما دخلها لاحظ سكان القرية القط السمين الذي كان بحوزته، فطلبوا منه أن يبيعهم إياه واستغرب التاجر اصرار أهل القرية على ضرورة أن يبيعهم القط، فسألهم فأخبروه بأنهم يعانون من كثرة الفئران التي تأكل محاصيلهم الزراعية ولا تُبقي عليهم شيئاً، وأنهم منذ مدة يبحثون عن قطّ لعله يساعدهم في القضاء عليها، وأبدوا له استعدادهم لشراء القطّ بوزنه ذهباً، وبعد أن تأكد التاجر من صدق كلامهم وافق على أن يبيعهم القطّ بوزنه ذهباً وهكذا كان.
عاد التاجر إلى بلاده وأستقبله الناس وأعطى كل واحدٍ منهم أمانته، حتى جاء دور الراعي فأخذه التاجر جانباً واستحلفه بالله أن يخبره عن سر الخمسة دراهم، ومن أين تحصَّل عليها، استغرب الراعي من كلام التاجر ولكنه حكى له القصة كاملة.
عندها أقبل التاجر يقبّل الراعي وهو يبكي ويقول بأن الله قد عوضك خيراً لأنك رضيت برزقك الحلال، ولم ترضَ زيادة على ذلك وأخبره القصة وأعطاه الذهب. هذا معني الرزق الحلال.. أن تترك بعض الحلال تعففا عن الحرام، وأن تؤمن بأن الآخرين لهم حق الرزق مثلك تماما.
اضف تعليق