السؤال الأكثر صحة من سؤال عنوان هذا المقال، كما أظن، هو، هل تتراجع ثقافتنا فعلا؟؟. والجواب سوف يأتي بحسب رؤية المتابع والمهتم والمعني، وبحسب فهمه ومؤهلاته وطبيعة ذخيرته الفكرية عبر رحلته الطويلة مع الثقافة، فضلا عن الغايات السليمة والمبيّتة التي تتدخل في الاجابة على مثل هذه الأسئلة الحساسة.
إن ثقافتنا تعاني من أزمة، وهذا الامر واضح تمام الوضوح، وثمة اسباب كثيرة متشعبة، منها الواضح والمعلَن والمعروف والظاهر على السطح، ومنها الخفي او المخبّأ تحت السطح لأسباب وغايات كثيرة، ولعل أكثر الاسباب التي تقف وراء أزمة الثقافة العراقية الراهنة، هو ادّعاء الانتساب لها والعمل وفق مضامينها ممن لا يستحق الانتماء لها أصلا بسبب قصوره الفكري وما شابه من اسباب.
فالوقائع تؤكد أن هناك من يدّعي الانتساب الى الثقافة، وهو لا يحملها، ويوجد مثقفون مدّعون، ليس في ملامحهم، أو أفكارهم، أو سلوكهم، ما يشي بأنهم مثقفون فاعلون وقادرون، على الاسهام ببلورة نهج ثقافي، يدفع بالآخرين في طريق التحضّر، وهذا يدل على غياب (أدوات الثقافة) الفعلية فضلا عن وسائلها.
ويمكن أن نستّل الجواب ايضا من ثقافتنا التي تقف قاصرة عن الفعل والتأثير في المجتمع، وتغييره نحو الافضل، وهذا يدل على وجود أزمة ثقافية، سببها بعض المثقفين، وهم أولئك الذين لم يترددوا في أية فرصة تتاح لهم، عن اعلانهم الانتساب للثقافة، ولكن حين تبحث في الجهد الفكري او حتى السلوكي الذي قدموه في هذا المضمار، فإنك لن تجد ما يشير الى فعل ثقافي جوهري او فكري، سوى ادعاء هؤلاء بأنهم ينتمون للثقافة ويؤثرون في مجرياتها، ولكن جميع المؤشرات تؤكد العكس.
ولا شك أن هناك جملة أسباب تقف وراء هذه الأزمة وهذا الانحراف عن الدور الأساس للثقافة، فهناك على سبيل المثال مثقفون لا يزالون يعيشون في عصر الامية الألكترونية، وقد أهمل هؤلاء عن قصد او من دونه، ملاحقة مستجدات العصر، في جانب استخدام وسائل الاتصال الحديثة، التي استطاعت ان تختصر مساحة المعمورة وتجمع العالم في غرفة واحدة، يمكن للجميع فيها ان يطل على الثقافات كافة، وهنا تتضح أهمية تلاقح الثقافات بين المجتمعات، ويظهر الدور المهم للمثقف في المشاركة الفعالة بعملية التلاقح الثقافي مع الحفاظ على الهوية الثقافية الأصلية، إذ لا فائدة اصلا من تلاقح ثقافي ينسف الثقافة الأم!!.
لذلك على المثقف الذي يعلن انتماءه للثقافة المعاصرة، أن لا يهمل العصر ووسائله، وفي حالة عدم قدرته على التعامل مع مستجدات الثقافة حضاريا، فهذا سوف يدل على تدني كبير، في قدرات المثقف، على التعامل مع وقائع العصر، وسرعته وعمقه وتنوعه في عموم الانشطة والجوانب، الفكرية والعملية، ولاشك أن هذا القصور سوف يؤثر على الثقافة الأم ويحصرها في زاوية ضيقة، ويجعلها تعاني من الانغلاق.
لذلك لابد ان يقول الممثل الذي يدّعي الانتماء الى الثقافة بدوره السليم في تنوير المجتمع، ويسهم في ازدهار الفكر المتوازن، وتناميه وتطوره في عموم مجالات الحياة؟، لذلك سوف يبقى السؤال قائما، هل هناك أزمة ثقافة، نعيشها اليوم بسبب تقاعس المثقفين او بسبب أولئك الذين يدّعون الانتماء للثقافة ولا يقدمون الاستحقاق المقابل او المطلوب لهذا الانتماء؟.
نعم هناك ازمة نعيشها اليوم في مدار الثقافة، لأن المجتمع يُقاس بمستوى نمو مثقفيه كمّاً ونوعاً، ولا ينحصر الامر بالكمّ مطلقا، وهو ما يحدث في الشعوب التي لا تزال بعيدة عن التمدن والتحضّر المقبول، حيث الكم الثقافي للثقافة والمثقفين، يطغي على النوع والجوهر معا، ولو اردنا الانصاف في هذا الصدد، فلابد أن نعترف بأننا لا زلنا ننتمي الى الشعوب التي تعاني من عجز الثقافة.
أما السبب الأكثر وضوحا في هذا المجال، فهو يتمثل بعدم قدرة ثقافتنا ومثقفينا على التأثير أفقيا في المجتمع، وتحويل الفكر والسلوك الشعبي، ونقله الى خانة التحضّر والتمدّن، ولو أردنا التقصّي والانصاف في هذا المجال أيضا، فإننا يمكن أن نسجل نسبة قليلة لما تقوم به الثقافة في مجال تمدين المجتمع ونقله الى واقع العالم المعاصر.
وهذا يستدعي من الثقافة، ومن عموم المثقفين الذين يؤمنون فعلا بأنهم مسؤولون عن دور الثقافة الحقيقي في تطوير المجتمع، أن يخططوا بشكل سليم لتحقيق قفزة نوعية في تأثير الثقافة بالمجتمع وتطويره، عبر خطوات فكرية واضحة ومدروسة، يتم وضعها قيد التنفيذ الدقيق، ومنها على سبيل المثال:
- مواجهة الثقافات الاخرى، بالثقافة المستمدة من جذورنا الثقافية التي يمكنها التعامل مع الآخر بإيجابية، بعيدا عن الذوبان، مع الحفاظ على الهوية.
- رسم الدور الواضح والسليم للمثقف ضمن هذا الاطار.
- الفرز الدقيق بين المثقف المدّعي والمثقف المسؤول.
- اعتماد الكفاءة الثقافية الواضحة، لاسيما في مجالات العمل الحكومي، اي في مؤسسات ودوائر الثقافة الرسمية.
- تحريك دور المنظمات الثقافية الأهلية ودعمها، مع متابعة جدية نشاطاتها في الواقع الثقافي الفعلي.
- مد جسور العلاقات الوطيدة والواضحة مع الجمهور الأوسع وعدم اقتصار النشاطات الثقافية على النخبة.
- كسر حاجز الانغلاق والتجافي بين الجمهور والمنظمات والاتحادات الثقافية، اذ من الملاحظ هناك قلة حضور لمعظم الانشطة الثقافية من لدن الجمهور الأوسع وليس النخبوي.
- لابد للمثقف والمنظمات الثقافية والجهات المعنية الاخرى من تحويل الثقافة الى منهج سلوك حياتي، وليس أفكار ومفردات (كمالية) شكلية لا تؤثر في تغيير الحياة.
اضف تعليق