القراءة الخطرة، لا تعنيها المعاني الجادة العميقة والهادئة، لذلك فهي لا تعود على قارئها بشيء يُذكر سوى قتل الوقت والتظاهر بالقراءة لسبب ما، والقارئ الذي لا يضفي على الكلمات معانيها وأهدافها بدقة، لن يكسب شيئا من فعل القراءة، لكن قد يقوده هذا التعجّل إلى ما هو...
أزعم من وجهة نظر شخصية أن هناك نوعين من القراءة، إحداهما القراءة العميقة، والثانية القراءة السطحية (الخطرة)، والتفريق بينهما قد لا يحتاج إلى شرح كثير، فهو كالفارق بين العميق والسطحي، إلا أننا نقف هنا أمام نص مكتوب ضمن توجهات وأفكار معينة، إذ لا يوجد كتاب بلا أفكار، بغض النظر عن تفاهتها أو أهميتها أو خطورتها.
لذلك يمكن أن تتم القراءة دونما اهتمام وفي عجالة، وهذا يعني أننا أمام قارئ سطحي، لا تعنيه أعماق المعاني والأفكار المطروحة في النص، على العكس من ذلك القارئ المهتم المعني الذكي الذي يدقّق في كل كلمة ترد في النص ويحاول الربط بين الكلمات وبين الجمل، ويعتصر ذاكرته وخياله لكي يرسم من هذه الكلمات صورا وأفكارا تتناسب وأهدافه.
القراءة الخطرة، لا تعنيها المعاني الجادة العميقة والهادئة، لذلك فهي لا تعود على قارئها بشيء يُذكر سوى قتل الوقت والتظاهر بالقراءة لسبب ما، والقارئ الذي لا يضفي على الكلمات معانيها وأهدافها بدقة، لن يكسب شيئا من فعل القراءة، لكن قد يقوده هذا التعجّل إلى ما هو أسوأ حين يصرّ على مواصلة القراءة التي تحفر في ذهنه الأحداث الخطرة.
هناك كتب تطرح أفكارا متنوعة، من بينها الأفكار العنيفة، أو أفكار الاحتيال والسطو على البنوك وما شابه، مثل هذه الكتب شريرة هي ومن يكتبها، وهدفها سحب القارئ غير الجاد إليها، فليس هناك قارئ جاد ويسعى لبناء شخصيته وفكره يهدر المزيد من الوقت على كلمات وجمل تقدم له أساليب وخطط للقيام بمداهمة بنك أو سرقة لوحة فنية من أحد المتاحف، هذه كتب تساعد على ارتكاب الجرائم والعنف، وتصنع شخصيات عنيفة، ولن يقترب منها القارئ الجاد الذي يتميز بالقراءة العميقة.
في صباي أو مراهقتي كنتُ ألتقي بنظير لي في العمر، لكنه شخص مختلف، إنه مغرم بقصص المغامرات التي قذفت به إلى قصص السرقات، كانت مجلات القصص المرسومة إحدى أبرز الأشياء التي استولت على شغفه ورغباته، وكان يرافقنا صبي ثالث مختلف تماما عن المغرم بقصص السطو، الصبي الثالث كان قليل الكلام كثير التأمل، لا يشغل نفسه بالنظر إلى رسوم مجلات السرقة والمغامرات، وما أن يبدأ المغرم بها بالقراءة بصوت عال حتى يغادرنا (الثالث) إلى مكان آخر، كان يرفض أن يستمع لقصص كهذه، بل هو لا ينظر إلى الصور.
الصبي الشغوف بهذه المجلات كان ينسجم بشكل غريب مع مجلاته المحبّبة إلى نفسه، فيما كنتُ أراقبه عن قرب، لم ابتعد مثل صديقنا الثالث، ولم أقترب كي أسقط في الفخ، كنتُ أحلل ما يقرأه، وأدقق في تفاصيل الصور، وأستشعر أن هناك خطرا في الكلمات وفي الصور معا، لهذا تكوّن حاجز بيني وبين تلك المجلات منعني من التفاعل مع قصصها المرسومة.
ذات يوم رأيت نظيري الشغوف بقصص المغامرات مع أبيه، كان يتأبط مجموعة من المجلات، وكان يناقشُ أباه عن بعض قصصها، الأب لم يكن يكترث لفحوى القصص ولا للصور، بل أحيانا كان يجلب هذه المجلات بنفسه لابنه!، ولم ترد على باله خطورة قراءتها.
فرّقتنا الحياة بعد تعاقب السنوات، وفرقتنا الأمكنة أيضا، كبر طفل المجلات المغامِرة، وهاجر ثالثنا إلى بلاد بعيدة، أما أنا فأخذتني دوامة العمل، لكنني واصلتُ القراءة، وأخذتُ أستشعر بدقة ما تعنيه الكلمات والجمل، وكنت أمنح تلك الكلمات المعاني التي أرغب بها، وليس ما ترغب به الكلمات من معانٍ، نعم أنا الذي أعطي الكلمات معانيها، وخيالي هو الذي يرسم أحداثها وصورها، وقد حرصت أشد الحرص أن لا أسمح للكلمات أن تتحكم بي.
كتب نورثروب فراي ذات مرة قائلا:
"لقد قيل عن بويم Boehme أنّ كُتُبَه مثل نزهة يجلب إليها المؤلّف الكلمات بينما يأتيها القارئ بالمعنى. ويمكن أن يكون القصد من وراء هذه الملاحظة سُخرية موجّهة لبويم، إلا أنها وصف دقيق لجميع أعمال الفن الأدبي بدون استثناء". المصدر: كتاب فعل القراءة، تأليف فولفغانغ إيز، ترجمة د. حميد لحمداني، د. الجلالي الكدية، منشورات مكتبة المناهل.
هذا يعني أن القارئ له دوره الحاسم في رسم معاني الكلمات، ولكن هذا لا يعني أن جميع القراء على هذه الشاكلة، هناك قراء تسيطر عليهم أفكار ومعاني كلمات النصوص، لدرجة أن هؤلاء يتحولون إلى دمية ساذجة بأيدي المؤلفين، ويتقبّلون أفكارهم بعد أن تتسرب إليهم دون أن يتنبّهوا لخطورتها وما ستجلبه من مآسٍ إليهم.
الطفل الشغوف بقصص المغامرات والسرقات، بعد أن دخل عقده الثالث، تحوّل إلى الكتب البوليسية، وهذه ليست سبّة، كلّنا قرأنا روايات أجاثا كريستي وغيرها، لا توجد مشكلة في ذلك، لكن المشكلة تكمن في تلك البذرة التي زرعتها مجلات السطو والسرقات في ذهن وخيال الطفل الذي أصبح في شبابه قائدا لعصابة قامت بأعمال سطو انتهت به إلى السجن.
القراءة إذن يمكن أن تؤثر في أطفالنا، ويمكن أن تجعلهم أخيارا أو أشرارا، هذا يتبع طبيعة القراءة نفسها، ومدى اقترابها من درجة الخطورة، كما أن الأب أو المعلم أو ولي الأمر عموما، مطالَب بمراقبة أبنائه عن بعد، أو دون أن يشعروا أو يلاحظوا ذلك، فمثلما تقدم لابنك النصيحة وتربّيه بالكلمة والفعل الصحيح، القراءة واختياراتها تدخل في هذا الأمر أيضا.
ليس بمعنى المنع والقمع والتوجيه القسري، لكن من باب الحماية الواجبة، بالطبع ليس كل الذين طالعوا وشُغِفوا بمجلات المغامرات انتهوا إلى ما انتهى إليه نظيري، ولكن أجزم أن كل هؤلاء وقعوا تحت خطر الانحراف، والقراءة كان ولا يزال لها دور في صناعة الميول والشخصية والتفكير والاختيار، وأخير المشاركة في صنع السلوك.
فلنجعل من أطفالنا ومراهقينا هم من يمنح الكلمات معانيها وليس العكس، فهل يمكن أن نقوم بهذه المهمة، بالطبع هذه مسؤوليتنا، لأن القراءة تقدم الكلمات، والأخيرة سواءً تُقرَأ أو تُسمًع، سوف يكون لها تأثرها على الطفل والمراهق، فمن باب أولى أن نحمي ذرّيتنا من خطر القراءة المخطَّط له.
اضف تعليق