يمكن أن تتدخل القراءة في رسم شخصيتنا، وتحدد أفكارنا، وطبيعة سلوكنا، ولعل الاختلاف ليس كبيرا بين قراءة الكلمات وقراءة الصور، لاسيما بالنسبة للأعمار المبكرة، فكلاهما أقرب إلى عملية ملء أو غسل الدماغ وتعبئته بأفكار وصور معينة، لهذا من الوارد جداً، أن تتدخل القراءة في تشكيل أدمغتنا...
يحيلنا عنوان هذا المقال إلى الملحمة الروائية الكبيرة، للكاتب الروسي الكبير ليو تولستوي التي تحمل عنوانا مقاربا هو (الحرب والسلام)، وإذا حاولنا تقريب العنف من حيث المعنى، فأمر بديهي أنه أقرب إلى الحرب من السلام، وهنا أحاول أن أقحم القارئ في بعض التساؤلات التي أراها مهمة، تُرى هل يمكن للقراءة أن تجعل من الإنسان مسالماً، وهل هي قادرة على تلويث عقله بحيث يصبح أحد أشرار هذا العالم؟
هناك من يفسّر القراءة على أنها مضخة أفكار، يمكنها أن تنقلها من المطبوع إلى عقل القارئ عبر الفعل القرائي، وبهذا لا أحد يستطيع أن ينفي تأثير القراءة على العقول، إيجابا أو سلبا.
فهل القراءة تشبه عملية غسيل الدماغ (Brainwashing)، التي يُقصد من ورائها تحويل الفرد عن اتجاهاته وقيَمهِ وأنماطه السلوكية وقناعاته بحسب المختصين؟، وهل القراءة يمكن أن تدفعه إلى تبنّي قيَماً أخرى جديدة، تُفرَض عليه من قبل جهة ما، سواء كان فرداً أو مجموعة أو مؤسسة أو جهة حكومية؟
الإجابة لا تقول بالتطابق التام بين الاثنين، ولكن هناك نوع من التشابه بينهما، لاسيما أن غسيل الدماغ هو مصطلح يندرج تحت مسميات مختلفة، تحمل المفهوم نفسه مثل: إعادة التقويم، وبناء الأفكار، والتحويل والتحرير المذهبي والفكري، والإقناع الخفي، والتلقين، وتغيير الاتجاهات والثوابت، وما يدور في هذه الدائرة من التفسيرات الأخرى.
تقول بعض المصادر إن (الصينيين القدماء وصفوا هذه العملية باسم تنظيف المخ أو إعادة بناء الأفكار، كما أن البعثات التبشيرية استخدمت هذا الأسلوب على نطاق واسع، وأطلقت عليه غسل الدماغ الجماهيري)، تُرى هل يختلف الفعل القرائي كثيرا عن غسيل الدماغ؟
هناك من يرى أن غسيل الدماغ عملية مقصودة، بغض النظر عن كونها صالحة أو مسيئة بحسب أهدافها، فإذا أراد الأب تربية ابنه على القيم الجيدة يختار له عناوين لكتب ذات أفكار إيجابية، تُسهم في تشكيل منظومته الفكرية وطرق تفكيره ومن ثم سلوكه، إذن القراءة هنا هي عملية (حماية الدماغ) يقوم بها الأب لمنع ابنه (بالقراءة) من الانحراف.
ولكن حين تُصبح القراءة عملا قسريّا، أي (بالإجبار) والإكراه المعنوي أو المادي، فإنها تندرج هنا تحت عمليات غسيل الدماغ القهرية، وغالبا ما يكون هذا النوع من القراءة مدمّرا لشخصية الإنسان، على عكس ما يدّعي القائمون عليه أو العاملين به، وربما لهذا السبب، استخدم عالم النفس الهولندي جوست ميرلو مصطلح قتل العقل (باللاتينية: Menticide)، للتعبير عن عملية غسيل الدماغ، مشيراً إلى أن العملية توجِد خضوعاً لا إرادياً وتجعل الناس تحت سيطرة نظام لا تفكيري، لأن الإكراه والقراءة لا يلتقيان.
حين أمسكُ الكتاب بيدي وأفردُ صفحاتهُ وأقلّبهُ، كثيرا ما أتخيّلهُ شخصاً يجلس أمامي على كرسي، أو خلف منصة، أو على منبر، وأبدأ من خلال (القراءة) أتلقّى الكلمات، وأحيانا أسمعها وكأنها منطوقة، هناك بعض الكتب تصل بقدرتها الفنية إلى تحويل الكلمات من مقروءة إلى مسموعة، إذا يمكن للقارئ المستغرق في عالم القراءة، أن يسمع صراع البطل المعذّب، وقد يسمع صوت السوط الذي يشقّ ظهر، وربما يرى الدماء تسيل أمام عينيه.
يحدثُ هذا حين أغوص في عالم الشخصيات وخصوصياتها (إذا كان الكتابُ سردّيا)، ولازلت حتى اللحظة أتذكّر كيف أحببت إحدى شخصيات (عبد الرحمن منيف)، ومن شدّة إعجابي بها بدأتُ أحبّ كل ما تنطق به من كلمات، بل جميع الأفكار التي آمن بها، آمنتُ بها أنا القارئ المحب لهذه الشخصية، نعم يمكنُ للأفكار أن تنتقل إلى رؤوسنا بسلاسة، وقبول تام، إذا استطاع الكتاب أن يجعلنا نحب القائل، أو نحب الشخصية.
ليس هذا فحسب، هنالك كتب فكرية بحتة، حين نغوص في عوالمها بالقراءة، تستطيع أن تسيطر علينا، وتجذبنا إليها دون عناء، ليس لأنها أفكار صالحة، كلا، فالأمر لا يتعلق بصلاحية الأفكار أو سوئها، بل لأنها مكتوبة بطريقة جذّابة أو غريبة تصدمنا، وقد تكون مدعومة بصور ذات طابع شكلي مجسّم، أو وصفي.
كما أن الإنسان سوف يملّ ويهجر الكلمات المعتادة، ويضجر من الأساليب المطروقة، ويمقت اللغة التي تكرّر نفسها، ولا يقترب من المؤلّفين الذين لا يعنيهم التجديد اللغوي والأسلوبي والفكري، مثل هذه الكتب والكلمات ليس لها القدرة على ملء فضول العقول الجديدة (الشباب)، ونزوعها نحو الأساليب المتجددة واللغة النافرة، فالقراءة كما يبدو لنا يمكنها توجيه مصائر الناس، وتحديد وجهتهم ونوع حياتهم.
في الطفولة والمراهقة كان لي صديق مغرم بالكلمة، لكنه بسبب الملل صار مغرماً بجمع مجلات الأطفال المصوّرة، ولأنه كان قادراً على شرائها كونه يحصل على مصروف يومي كبير من عائلته الغنية، فإنه كوّن خلال سنة مكتبة فيها مئات المجلات، لكن في الحقيقة كانت الكلمات فيها نادرة، أما الصور فإنّها مرسومة بعناية فائقة وأعدادها مضاعفة، ولهذا كان صديقي مغرما بالأشكال، ولم يعبأ بمعاني الكلمات القليلة (صغيرة الحجم) التي كانت مركونة في زاوايا الصور.
لا أتذكر أنه قرأ كلمة أو جملة واحدة، ولم يبدِ إعجابه بالكلمات، بينما هناك صور كثيرة جذبتهُ بألوانها وأشكالها الغريبة (منها صور الكابوي وحمل المسدسات و وضع القبعة فوق الرأس)، لدرجة أنها صنعت منه مقلِّدا ماهرا لها، فصار يبحث عن ملابس الكابوي والقبعات ويشتريها، وأصبحت عنده مسدسات وبنادق أطفال مختلفة، كان يضعها في حزام سرواله دائما.
بل أكثر من ذلك حين فاجأني ذات يوم بالقول (بأنه يفكّر أن يطلب من أبيه شراء حصان له)، كي يكون شبيهاً بالصور التي عاش معها في مجلاته الكثيرة آنذاك!، ولابد أن أذكر النهاية المؤسفة لهذا الطفل الذي أكلته السجون بسبب جرائمه التي ارتكبها قبل العشرين من عمره.
هكذا يمكن أن تتدخل القراءة في رسم شخصيتنا، وتحدد أفكارنا، وطبيعة سلوكنا، ولعل الاختلاف ليس كبيرا بين قراءة الكلمات وقراءة الصور، لاسيما بالنسبة للأعمار المبكرة، فكلاهما أقرب إلى عملية ملء أو غسل الدماغ وتعبئته بأفكار وصور معينة، لهذا من الوارد جداً، أن تتدخل القراءة في تشكيل أدمغتنا، ويمكنها أن تجعل من الإنسان مسالماً، أو تصادمياً في تفكيره وسلوكياته بالحياة.
اضف تعليق