هناك من لا يعبأ أو لا يعي حجم التأثير الكبير الذي يعكسه الفكر السياسي العنيف، على إدارة الدولة ومؤسساتها وأركانها، وقد لا يعتقد الساسة بأن الأساليب العنيفة في إدارة الدولة والمجتمع، سوف تؤدي إلى خلخلة البناء الاجتماعي، وانتشار القيم المشوهة، وتدمير القيمة الأساسية التي تحمي المجتمع والفرد من الضعف والانهيار...
هناك من لا يعبأ أو لا يعي حجم التأثير الكبير الذي يعكسه الفكر السياسي العنيف، على إدارة الدولة ومؤسساتها وأركانها، وقد لا يعتقد الساسة بأن الأساليب العنيفة في إدارة الدولة والمجتمع، سوف تؤدي إلى خلخلة البناء الاجتماعي، وانتشار القيم المشوهة، وتدمير القيمة الأساسية التي تحمي المجتمع والفرد من الضعف والانهيار، ونعني بها الاحترام.
العنف هو العدو الأول على الاحترام، وهو الأكثر تدميرا لهذه القيمة التي تصنع التوازن الاجتماعي، وترسّخ ثقة الإنسان بنفسه، وتجعله يشعر بكينونته مكتملة غير منقوصة، وتشجعه على احترام الآخرين وتزيد ثقته بهم في جميع التعاملات، مما ينعكس على البناء الاجتماعي الناجح الذي يعد حجر الزاوية للبناء السياسي والاقتصادي معاً.
لذلك من الأهمية بمكان، أن تعي الطبقة الحاكمة تداعيات العنف الخطيرة على بناء الدولة والمجتمع، فكلما كان هذا الفكر السياسي متطورا واعيا، وينحو إلى المدنية والتهذيب واللاعنف; سوف نحصل على نتائج اجتماعية متوازنة تساعد في بناء دولة ترتكز على الدعائم العصرية المتطورة.
قد يستغرب بعض الساسة من العاملين في مفاصل الدولة والسلطة، من الرأي الذي يعطي العنف هذه النتائج الخطيرة، وربما يبرر بعضهم قراراتهم وأساليبهم العنيفة، بضبط الأفراد، وفرض القانون، وما إلى ذلك من تبريرات، لكنهم لا يقولون ولن يعلنوا بأن معظم أساليب العنف للحكومات وحكامها، تأتي في إطار حماية السلطة ومصالحها.
فقدان الاحترام بسبب العنف
بينما تعود أساليب العنف بتداعيات خطيرة على البنية الاجتماعية، وتدمر شخصية الفرد، وتسلب منه احترامه لنفسه وللآخرين معا، مما يلحق هشاشة أخلاقية واضحة تدمّر قيم التماسك المجتمعي، حيث ينعكس تدهور الفكر السياسي للطبقة الحاكمة على الاجتماع والتنمية والاقتصاد، لذلك نلاحظ في الدول الناهضة وقوع السياسي الحاكم تحت الرصد الإعلامي الدقيق المتواصل، لمراقبة أفعاله وأعماله وقراراته التي تميل نحو العنف.
من الأسباب التي تشجع الساسة في الأنظمة العنيفة، على عدم الكفّ عن أسلوب العنف في إدارة الدولة، أنهم لا يتعرضون للمساءلة ولا المقاضاة، ولهذا فإنهم لا يقيمون وزنا للرقابة الإعلامية أو سواها، إذ يشعر السياسي بأنه محمي من العقاب والحساب، بينما نجد أن نظيرهُ في الدول ذات الأنظمة غير العنيفة، لا يتمتع بحصانة (إعلامية) تحميه من أقلام الكتاب والصحفيين، أو من عدسة المصور الصحفي أو التلفزيوني، أو المقاضاة، ولذلك يخشى المسؤولون في الأنظمة الديمقراطية أي نوع من العنف أو الانحراف.
ومما لوحظ في مجال الفارق بين ساسة الأنظمة الفاشلة والناجحة، أن السياسي كلّما كان ذا منصب أعلى في الدولة، يصبح هدفاً مرصودا من وسائل الإعلام التي تبادر بلا تردد، لفضح أساليبه العنيفة وغير القانونية، بغض النظر عن مركزه الوظيفي أو نوع وحجم السلطات الممنوحة له، وليس له الحق في الاعتراض أو المقاضاة، لأن الأمر يتعلق بالحريات الإعلامية أولا، وبإساءة استخدامه لصلاحيته التي يوظفها في إطار العنف المدمِّر للثقة والاحترام.
لذا طالما كان السياسي ذا مسؤولية كبيرة، فإن أخطاءه تنعكس على الجميع، وانطلاقا من هذا التصوّر، عليه أن يوافق بالرقابة الإعلامية والتشريعية وحتى الشعبية، عملا بالمعادلة التي تقول، كلما كان منصبك أعلى; أصبحتَ أكثر من غيرك عرضة لرقابة الإعلام والناس عموما، لأن عملك لا يخصك وحدك ولا يخص عائلتك وحدها، إنك تقوم بخدمة الآخرين مقابل منصبك العالي، ولا ينبغي لك خرق القانون، ولا يجوز لك اللجوء إلى العنف مطلقا.
كيف نتحول من العنف إلى نقيضه؟
أما تبعات وتداعيات السياسي الذي لا يؤمن بالرقابة الإعلامية والشعبية، ويعتمد العنف منهاجا عمليا لأسلوبه في إدارة سلطته، فإنها تشجع العنف، وتخلخل البنية الاجتماعية، وتصنع شخصيات مهزوزة، مستفَزَّة محتقِنة، تتعامل بروح الكراهية والغلبة، وتلجأ إلى التصادم العنيف دونما تفكير بالعواقب.
مثل هذا النموذج السياسي يظن أنه شخصية محصَّنة ضد الرقابة، ولا يقبل الرأي الذي يظهر له أخطاءه في هذا المجال أو ذاك، والسبب اعتقاده بأنه لا يخطئ، وأن أفكاره السياسية لا يشوبها الخلل، وثمة مشكلة أكبر وأخطر، أن بعض السياسيين يعرف بأنه على خطأ، وأن الفكر السياسي الذي يدير البلد من خلاله فكر هش، أو ضعيف، ومع ذلك يبقى مصرّا على ما هو عليه من عنف وإيغال في الاستعمال الخاطئ للسلطة.
مثل هؤلاء الساسة، لا يفهمون سوى الأسلوب التصادمي، كونهم لم يجربوا منهج اللاعنف في إدارة الدولة، بل لم يجربوه حتى داخل أسِرِهُم، لذلك سرعان ما تندمج شخصيتهم المغلقة على العنف مع فكرهم الاستبدادي، فيظهر ذلك على شكل قرارات وسلوكيات عنيفة، تسلب الاحترام من الناس وتشيع أجواء الكراهية وانعدام الثقة.
هل يتوقع السياسيون المستبدون العنيفون، أن أفكارهم وسياساتهم وقراراتهم يمكنها أن تؤذي المجتمع والدولة إلى هذا الحد؟، بالطبع لا يمكن أن يسمح لهم فكرهم المحدود بمعرفة الأضرار الجسيمة التي يلحقها العنف بالدولة والمجتمع، ومتى ما وصلوا إلى المستوى الفكري الذي يجعلهم يدركون مخاطر العنف على الفرد والبنية الاجتماعية، سوف يتحول الأسلوب في إدارة الدولة من القرارات والتنفيذ العنيف إلى نقيضه.
ما المطلوب في هذه الحالة؟، الجواب لا يتطلب ذكاءً حادّا، ولا بحثا في المجهول، إنما الأمر يكمن في قدرة الساسة على التحوّل من أساليب العنف إلى اللاعنف في إدارة الدولة ومؤسساتها، وفي طبيعة العلاقات السياسية بين مكونات الطبقة السياسية نفسها، فمتى ما ساد أسلوب اللاعنف وتعاظم الفكر السياسي المتوازن الهادئ المستوعِب للجميع، ساد الاحترام المجتمعي المتبادَل، وانتشرت الثقة بين الناس والسلطة، وتحوّل الجميع من دوّامة العنف إلى ربوع السلم والأمن والاستقرار.
اضف تعليق