من هو المسؤول عمّا يجري؟، هذه الزيجة الظالمة من يقف وراءها؟، بعضهم قال الأب هو المسؤول الأول، آخرون قالوا عائلة أمل كلّها مسؤولة عن ذلك، ومنهم من قال كان على الشاب المقعد أن يرفض هذه الزيجة غير المتكافئة، لكن أحد الرجال الكبار الواعين قال: المسؤول الأول عمّا يجري للفتاة والشاب المُقْعَد...
فقد سلام أباه في الحرب وهو لا يزال في رحم أمه، كانت حربا ضروساً أكلت الأخضر واليابس، لكنها انطفأت في نهاية المطاف، وما يؤسَف له أن الحروب حين تموت لا تذهب إلى مزبلة التاريخ، إنما تبقى مخلَّفاتها تعيث فسادا وتدميرا بمن أفلت من قبضتها ولم يمتْ فيها.
هذا ما حدث لسلام وهو لم يزل شابّا لم يعبر سقف العشرين من عمره، حين فاجأته الكهرباء وأحالت نصف جسده إلى جماد، فمنظومة الكهرباء غير المنتظمة بسبب مخلّفات الحرب، صعقت سلام ذات صباح حين أمسك بالسلك الكهربائي وكان يظن أنه خالٍ منها، لكنها بغتة سرَتْ في السلك الذي أمسكه سلام لتصليحهِ فتدفقت الشحنة إلى جسده، لتشلّ ساقيه وقدميْه وتطيح به أرضا، وتجعله طريح الفراش لسنتين.
في آخر المطاف، حين غادر سلام فراش المرض، أصبحت حياته كلّها عبارة عن كرسي متحرك، لم تكتفِ الحرب بقتل أبيه، فأوعزت للكهرباء العشوائية أن تدمّر حياته وتجعله ميّت وهو على قيد الحياة، ثمّ ماتت أمهُ وهو في معمعة المرض، ولم يبق له سوى أخته التي تزوجت في مدينة أخرى بعيدة، فخسر بذلك الإنسانة الوحيدة التي كانت تهتم به وتقضي احتياجاته ومتطلباته.
أصبح سلام وحيدا في بيت أبيه الكبير، الكلّ غادره، أبوه في الحرب، وأمه بمرضٍ خبيث مفاجئ، وأخته لم تكن مستعدة لقضاء حياتها مع جسد حي ميّت، عرضَ عليه عمّه الأخ الأكبر لأبيه أن ينتقل إلى بيته ويكون فردا من عائلته، لم يستطع سلام أن يرفض هذا العرض، أجّرَ بيتهم الكبير إلى أناس غرباء، وانضمّ إلى عائلة عمّه الذي أوصى الجميع خيراً به، لم يكن سلام قادرا على رعاية نفسه في أبسط المتطلبات وأصعبها كقضاء الحاجة.
شعر بالغربة تحاصره وهو بين أبناء عمّه، وكانت بنت عمّه الوحيدة (أمل) ذات الـ (14) سنة، تعامله بلطف، لكنه يوم بعد آخر كان يشعر بازدياد ثقلهِ على عائلة عمّه، على الرغم من أنهم كانوا يحاولون التصرف بإنسانية عالية معه، لم يشكُ لأحد من عذابه وإحساسه بالغربة وبأنه بنصف جسده الميّت أصبح عالةً على الآخرين، بل أصبح عالة حتى على نفسه.
لاحظ عمّه ذلك الحزن الثقيل والكآبة المريرة التي سيطرت على ابن أخيه سلام، سأله ذات يوم إذا كان يعاني من نقص ما، أو أن أحدا من العائلة آذاه أو أزعجه، لكنَّ (سلام) أجابه بالنفي، وأصرَّ على أنه ليس بحاجة لأيّ شيء.
لقد كذب على عمّه مضطرا، فماذا يقول له، وماذا بوسع عمّه أن يفعل له، هل بإمكان عمّه أن يعيد لهُ نصف جسده المشلول، وهل يستطيع أن ينقذه من لعنة الكرسي المتحرك، هل يمكن لعمه القضاء على عذابه وهو يتلوى فوق الفراش ليلا من وحشة الجسد العليل، وآلام النفس المكبلّة بالشلل، والحاجة إلى الآخرين في كل شيء؟؟
مضت الأيام تباعا، لكن حالة الاغتراب والشعور بالنقص تصاعدت عند سلام، فلجأ إلى العزلة، وابتعد عن أفراد عائلة عمه، وأحيانا كان يقفل عليه باب الغرفة التي خصصها له عمّه، وحين كانت (أمل) ابنة عمه الوحيدة تأتي له بالطعام كان يرفض تناوله بل يرفض حتى فتح الباب لها، صار جسده أكثر هزالاً ووجهه أكثر اصفرارا، وأصبح الحزن علامةً فارقة في عينيه ووجههِ، ولم تنفع مراعاة عائلة عمّه له.
شعرَ عمّه بالقلق عليه، بعد أن عجز عن فهم أسباب هزالهِ وحزنه وصمته وعزلته، فخطرت في ذهنه فكرة لم يتردد من مفاتحة ابنته (مل) بها، هذه الطفلة التي لا تعي تعقيدات الحياة بعد، قال العم لابنته أمل:
- ابن عمّك في طريقه إلى الموت إذا لم تنقذيه أنت؟؟
فوجئِت الطفلة بكلام أبيها، ولا تعرف لماذا سيموت ابن عمّها، وكيف لها أن تنقذهُ من الموت، فقالت لأبيها:
- لم أفهم قصدك أبي، كيف يمكن أن أنقذ (سلام) من الموت؟؟
قال لها أبوها دونما تردّد:
- أن تتزوجيه، زواجك منه ينقذ حياته.......!!!!!
بعد أقل من أسبوعين، كان العريسان يمشيان إلى جانب بعضهما في زفة فرح فقيرة، العروس الطفلة (أمل) تمشي على قدميها وهي ترتدي بذلة الزفاف، وسلام يرتدي بذلة رجالية بيضاء لكنه يمشي على كرسي متحرك بوجه شديد الحزن، لم يفكّر أحد كيف لفتاة صغيرة أسمها (أمل) أن تقضي حياتها مع جسد نصفه حي ونصفه الآخر ميت، هي نفسها لم تفكّر بهذا الأمر، وحتى لو فكَّرت فإن سطوة الأب القوية حاضرة، وأمها أيضا لم تستطع الرفض بسبب سطوة زوجها عليها.....
تساءل الناس: من هو المسؤول عمّا يجري؟، هذه الزيجة الظالمة من يقف وراءها؟، بعضهم قال الأب هو المسؤول الأول، آخرون قالوا عائلة أمل كلّها مسؤولة عن ذلك، ومنهم من قال كان على الشاب المقعد أن يرفض هذه الزيجة غير المتكافئة، لكن أحد الرجال الكبار الواعين قال:
- المسؤول الأول عمّا يجري للفتاة والشاب المُقْعَد... هي الحرب.......
اضف تعليق