بدتْ وجوههم متعبة لكن هناك أشخاصا بينهم لا يزالون شبابا في مقتبل العمر، استغرب صديقي هذا العدد الهائل من البطالة، لاحظتُ ملامح القهر والألم تموج في عينيه ووجهه، فجأة طلب مني التوقّف والعودة به إلى بيت أقاربه الذي يقيم فيه خلال زيارته السريعة لبلده قادما من مهجره البعيد...
توجد أكلة شعبية شهيرة في مدينتي اسمها باقلّاء بالدهن الحر، يفضل الناس تناولها قبل وبعد شروق الشمس، سيد رحيم هو أفضل من يقدمها لزبائنه، فقد ورثها عن جدّه وأبيه وأورثها لأبنائه، وحين استيقظتُ فجر هذا اليوم اتصلتُ بصديقي القادم من بلاد الغرب وطلبتُ منه أن يرتدي ملابسه لأنني سوف أمرُّ عليه بسيارتي كي نذهب معا لتناول هذه الوجبة الشعبية اللذيذة.
بعد ربع ساعة وصلتُ لصديقي الذي كان بانتظاري، صعد معي في صدر السيارة، فاجأني بعطره المتميز ونضارة وجهه وسطوع عينيه وهما تضجان بنور العافية، بدا لي شخصا برجوازيا لم تتعبه الدنيا، لكنه في الحقيقة نشأ في عائلة كادحة، وعاش حياته كادحا ودخل في مجال الفكر والأدب وطوّر نفسه كثيرا واستطاع أن ينتقل من الطبقة الفقيرة إلى الثرية بجهوده الحثيثة.
انطلقنا إلى مطعم سيد رحيم الذي يبعد عنّا مسافة، وفي الطريق مررْنا بمسْطَر عمال البناء (المسطر هو المكان الذي يتجمع فيه العمال بانتظار من يأتي لاختيارهم للعمل مقابل أجر يومي معروف)، كانت أعدادهم كبيرة لدرجة أن صديقي فوجي بكثرتهم فسألني:
- هل هؤلاء جميعا بلا عمل؟، وهل جميعهم بانتظار شخص يحتاجهم للبناء، وهل جميعهم سوف يحصلون على عمل؟
بدتْ وجوههم متعبة لكن هناك أشخاصا بينهم لا يزالون شبابا في مقتبل العمر، استغرب صديقي هذا العدد الهائل من البطالة، لاحظتُ ملامح القهر والألم تموج في عينيه ووجهه، فجأة طلب مني التوقّف والعودة به إلى بيت أقاربه الذي يقيم فيه خلال زيارته السريعة لبلده قادما من مهجره البعيد، لم أستطع رفض طلبه أو ثنيهِ عن العودة وترك وجبة الباقلاء بالدهن الحر.
كنت أقرأ الحزن في عينيه، وكان من الصعب إقناعه كي نواصل طريقنا إلى مطعم سيد رحيم، سمعته وهو يقول لي:
- عدْ بي إلى البيت، لا أستطيع تناول أيَ شيء بعد رؤيتي لهذا المنظر، كيف يمكن أن يحدث هذا في بلد يطفو على بحيرة من الذهب، أيعقل أن كل هؤلاء بلا عمل، وأرزاقهم محكومة بالصدفة؟، تُرى كم منهم يحصل على عمل؟؟
عدتُ بصديقي إلى بيت أقاربه، نزل من السيارة منكسرا محبطا، كأنه هو السبب في فقدان عشرات الأشخاص لفرص العمل الكريمة التي تليق بمواطن يعيش في بلد يصنَّف على أنه الرابع عالميا في إنتاج النفط، والثاني في الاحتياطي النفطي، دخل بيت أقاربه بوجه منطفئ، وحين نظر إليّ ملوّحا بيديه مودعا إياي، كانت عيناه منطفئتان تماما.
في طريق عودتي مررتُ على مسطر العمال نفسه، كانوا يتجمعون على الرصيف، ينتظرون فرصة عمل، ويهرعون على أي شخص يُقدِم عليهم، وحين تتوقف سيارة بالقرب منهم، يهجمون عليها بشكل جماعي على أمل أن يختارهم صاحب البناء كي يعملوا في بناء بيت أو عمارة، لكن في الغالب يعودون منكسرين محبطين بلا فرصة عمل.
رأيتُ أحد العمال الشباب يجلس وحيدا على الرصيف، مبتعدا عن تجمع الآخرين، غائباً في دوّامة من الصمت والتفكير، أوقفت سيارتي بالقرب منهُ وقررتُ بيني وبين نفسي أن أقدّم له مبلغ (25) ألف دينار وهو ما يعادل أجر عملهِ ليوم واحد، لم أتردد من تقديم هذا المبلغ للشاب دون مقابل.
أوقفت سيارتي عندهُ تماما، وأنزلت زجاجة النافذة، وطلبت منه أن يقترب مني، فنهض من مكانه فجأة، كأنني هبطتُ عليه من السماء، سألني فورا:
- هل أنت بحاجة إلى عامل، ما هو نوع عملك، هل تبني بيتا أو عمارة، أين يقع مكان البناء؟؟
سلسلة من الأسئلة أطلقها الشاب عليَّ قبل أن أفتح فمي بكلمة واحدة، كان متلهّفا كي يعرف طبيعة العمل الذي أحتاجه فيه، لكنني لا أحتاجه في أي عمل لأنني أصلا توقفتُ لأعطيه المبلغ كمساهمة مني لا أكثر.
أخرجتُ محفظتي ومددتُ يدي وأعطيته مبلغ (25) ألف دينار، فتساءل مستغربا:
- ما هذا المبلغ؟
قلتُ له:
- إنه لك أنت...
قال وقد طغى على وجهه حزن مفاجئ:
- هذا المبلغ لي؟ مقابل ماذا؟؟
قلتُ له:
- مساعدة مني لا أكثر....
رفض الشاب بشكل قاطع، وقال:
- أنا لا أستجدي ولن أفعل ذلك مدى حياتي.
وحين ألححتُ عليه ورجوته مرارا أن يتقبّل مساعدتي له، رفض بشكل قاطع، وبعد أن يئستُ منه تماما، ابتعدتُ عنه والألم يأكلني، وموجة من اليأس دهمت كياني كله، عدتُ إلى بيتي وفي رأسي دوامة من الأفكار والتساؤلات عن الأسباب التي جعلت مثل هذا الشاب المحتاج يرفض مساعدتي.....
وأخيرا أقول لمن يهمهم الأمر: إذا كان شبابنا على هذه الدرجة من الأنفة واحترام الذات، هل يجوز أن يتعرضوا للذل بسبب فقدان فرص العمل، هل مثل هؤلاء الشباب المحترمون يستحقون ما يتعرضون له من إهمال وقسوة ولامبالاة حكومية؟؟، إننا نرتكب جرما بحق أبنائنا، وأعني نحن الكبار، لماذا لم نوفر لهم فرص عمل تحفظ كرامتهم وتفتح لهم أبواب الحياة الحرة؟؟؟
اضف تعليق