صدره العريض وبنية جسمه القوية وعضلاته المفتولة توحي بأنه من طراز الرجال الأقوياء، وما يجعلكَ تظنّهُ رجلا شرّيرا ملامح وجهه البلهاء الخالية من أي تعبير، فهو لا يفرح ولا يحزن ولا تظهر في وجهه لغة معينة، إنّه والعدم سواء، لكن جسده الطويل وعضلات ذراعيه وصدره وساقيه...
صدره العريض وبنية جسمه القوية وعضلاته المفتولة توحي بأنه من طراز الرجال الأقوياء، وما يجعلكَ تظنّهُ رجلا شرّيرا ملامح وجهه البلهاء الخالية من أي تعبير، فهو لا يفرح ولا يحزن ولا تظهر في وجهه لغة معينة، إنّه والعدم سواء، لكن جسده الطويل وعضلات ذراعيه وصدره وساقيه، تؤكّد إنه يعادل قوّة عشرة رجال أصحّاء.
أبو إبراهيم أو الرجل الأصمّ هكذا يسمّونه أهل الحي، بعضهم يتحاشى أن يناديه بالرجل الأصمّ أو (الأطرم/ الذي لا يسمع) خشيةَ أن يبطش به، فيتملّقه بالاسم الآخر (أبو إبراهيم)، مع أن الرجل الأصم لا يعنيه ذلك، ولا يغيّر من مشاعره أو تعابير وجهه قيد أنملة، وهذا ما يجعل عددا من أهالي الحي يتمادون كثيرا بالتجاوز على الرجل الأصمّ وينعتونه بأوصاف لا تليق بالرجال بل لا تليق بالإنسان، لكنّ أبا إبراهيم لا تعنيه الأوصاف والتسميات كأنه لا يسمعها....
مرة واحدة فقط رآه أحد رجال الحي يبطش بعشرة رجال، وقد انتشرت هذه الحكاية بين أهالي الحي كالنار بين الهشيم، كثيرون لم يصدّقوا هذه الحكاية لأنّ الرجل الذي حكاها للناس ليس لديه من يدعم أحداث حكايته، حتى الرجل الأصم عندما يروق باله وتسمح ملامح وجهه ببعض المشاعر والتعبير، ويسمع بعض الكلمات أو الأسئلة عن حكاية بطشه بعشرة رجال حاولوا الإساءة له، كان يجيب بطريقتين أما النفي بالإشارة أو البقاء في حالة صمت، لا يؤيد الحكاية ولا ينفيها...
الرجل الذي رأى المعركة بعينيه كما يقول، لم يصدّق ما كان يراه، فالرجل الأصم الذي أمضى عمره بين أهالي الحي هادئا حياديا بلا مواقف ولا ردود أفعال، تحوّل في لحظة إلى وحش شرس وفتك بأقوى الرجال العشرة الذين حاولوا الإساءة له، يقول الرجل الذي قصّ أحداث الحكاية، لكمة واحدة وجهها الرجل الأصم لأقوى الرجال العشرة، سقطت على أثرها أسنانه وتدفق شلال الدم من فمه، ففرَّ التسعة الآخرون فرار الجبناء الضعفاء، حتى صاحبهم الذي أخذه النزيف الحاد لم يحملوه إلى المستشفى، بل الرجل الأصم نفسه أخذه بسيارة أجرة وأوصله إلى صالة الطوارئ الصحية وغادر بهدوء، لم يكن حزينا ولا مبتئسا ولم تظهر عليه علامات المنتصر أو المتشفي بالرجل الذي فقد أسنانه، كان وجهه حياديا تماما.
في اليوم التالي حين خرج الرجل المضروب على فكّه بين الناس، كان فاقدا لما يقرب من تسعة أسنان، ولم يكن قادرا على الكلام، ولم يخبر أحدا بما حدث له، لذلك فإن أهالي الحي كذّبوا هذه الحكاية، واتهموا الرجل الذي حكاها بأنها من تأليفه حتى يشتهر بين سكان الحي، لأن الرجل المضروب نفسه لم يؤيد الحكاية، والتسعة الآخرون جميعا نفوا أن الرجل الأصمّ هو الذي أسقط أسنان صاحبهم...
ومنذ أن طشَّت تلك الحكاية بين أهالي الحي عمّا فعله الرجل الأصم في ضربته القاصمة، بدأ الجميع يتحاشونه، حتى الشباب والصبْيَة المتمردين الذين كانوا كثيرا ما يضايقون الرجل الأصم بنداءات كريهة وأوصاف مخزية كفّوا عن ذلك حتى يبقون محتفظين بأسنانهم، رجل واحد فقط أصرّ على معرفة الحقيقة وهو شيخ مسنّ بل هو أقدم رجل عاش في هذا الحي، وتاريخ الجميع عنده، يعرف الشاردة والواردة وكل التفاصيل لكل الرجال والنساء والبيوت في هذا الحي.
هذا الشيخ المسن طيلة سنوات عمره التي قضاها الحي، ظل يعتقد بأن أبا إبراهيم أو (الرجل الأصم)، هو بالفعل لا يسمع الكلمات التي يتم توجيهها إليه، لذلك هو لا يجيب أحدا ول يتناقش مع أحد، لأنه لا يسمع كلام الطرف المقابل، لكن بعد حكاية المعركة الضارية وإسقاط أسنان أحد الرجال العشرة، بدأ هذا الشيخ المسن يبحث عن حقيقة الرجل الأصم، وهل هو بالفعل لا يسمع كلمات الآخرين المسيئة والخادشة للحياء بل والمهينة، وإذا كان يسمعها بالفعل لماذا لم يرد على قائليها وهو يمتلك هذه القوة العضلية الهائلة التي لم يستطع مواجهتها عشرة رجال!
باشر الرجل المسن وهو أكبر رجل بالحي عمْراً، البحث عن حقيقة الرجل الأصم، فصار يبحث عنه ليل نهار، إلى أن عثر عليه ذات يوم مختليا مع نفسه في مكان مهجور، اقترب منه الرجل المسنّ، نظر في وجهه الخالي من أي تعبير، سلّم عليه، فأومأ الرجل الأصمّ برأسه دلالةً على ردّ السلام، جلس الرجل المسن إلى جانب الرجل الأصم، لم يكن معهما أحد، وحدهما يجلسان الآن في مكان مهجور أشبه بالخرِبة.
بدأ الرجل المسن يحدّث الرجل الأصم، يسأله عن قضايا كثيرة، من دون أن يبدر من الرجل الأصم أية ردود أفعال أو كلمات أو أجوبة، لم ييأس الرجل المسنّ، قال له وهو ينظر بعينيّ الرجل الأصم مباشرة:
- هل صحيح أنك ضربت أضخم الرجال العشرة وأسقطت أسنانه؟
فأومأ الرجل برأسه بأنه فعلا ضرب الرجل الضخم وأسقط أسنانه.
هنا توقّف الرجل المسنّ عن الكلام كأنه أصيب بصدمة، يبدو أن الرجل الأصم يسمع ما يُقال له، بدليل أنه أومأ برأسه جوابا على سؤال الرجل الأصم، فسأله الرجل المسنّ مرة أخرى:
- هذا يعني أنك فعلا أسقطت أسنان الرجل؟
فأجابه الرجل الأصم هذه مرة بكلمات واضحة:
- نعم أنا ضربته فعلا وأسقطت أسنانه!!
فسأله الرجل المسنّ:
- إذن أنت تسمع الكلام وإنك غير مصاب بالصمم؟
أجابه الرجل الأصم:
- نعم بالفعل أنا أسمع كل ما يُقال لي!!
- إذن لماذا تتظاهر بأنك أصمّ؟
فأجاب الرجل الأصم:
- لو أنني أتظاهر بسماع كل الإساءات التي تمّ توجيهها لي، هذا يعني أنني سوف أسقط أسنان الكثير من رجال الحي وصبْيتهِ!!
وأكمل الرجل الأصم كلامه وهو ينظر بشكل مباشر في عيون الرجل المسن:
- القوة التي أمتلكها لا تسمح لي بسماع كلام الناس، لأنّ أغلبه يحطّ من كرامتي وشخصيتي، لذلك لجأت إلى تمرير الكلام المسيء من خلال التظاهر بالصمم، ولو أنني أجبت على جميع الإساءات بقوّة جسدي هذا يعني أنني سأخوض حربا مع الجميع، لذلك أنصحك أيها الرجل المسن، أن تنصح أهالي الحي، رجاله، شبابه، نساءه، صبيتهُ، أن لا يسمعوا كل الكلمات التي تُقال لهم، ويكتفون بالكلام الجيد فقط حتى يسود السلام بينهم...
ثم ختم الرجل الأصم كلماته بالقول:
نحن نحتاج إلى نوع من الصمم والتغاضي عن إساءات الآخرين، حتى يسود السلام والتسامح والوئام بيننا.
اضف تعليق