نحن أمام نقيضين، التقدم والتخلف، البقاء في حضانة الأخير، تعني بقاء المجتمع جاهلا فقيرا مريضا مكبلا بهذا الثالوث القاتل، أما الخروج خارج بيئة أو مستنقع التخلف، فهي ضمان حاسم للانتقال إلى العالم المتقدم، ولكن وفق شروط كثيرة تبدأ بصناعة المجتمع الذي يفكّر بجدية بالخلاص من التخلّف بشكل جماعي...
التقدم يتوزّع على ميادين عديدة ينشط فيها الإنسان، منها التقدم السياسي والاقتصادي والتعليمي والصحي وغيرها مما يعدّ من لوازم الدول الناجحة، ولكن كل أنواع التقدم لا يمكن لها أن تحدث إذا لم يتصدَّرها التقدم الاجتماعي أو ما يسمّى (بالإنجليزية: Social Progress)، فهو كلّ تغير في البناء الاجتماعي، ويُطلق النشاط الإنساني ويحفزه؛ ليعمل الناس في حرية وتعاون. كما ينطوي على هدف غالٍ، يتوخى خيراً، أو ينتهي إلى نفع. ولا بدّ لكلّ مرحلة لاحقة من مراحل التقدم، أن تكون أكثر ازدهاراً ورقياً من سابقتها.
ويفسر المعنيون التقدم بأنّهُ الحركة التي تسير نحو الأهداف المنشودة والمقبولة، أو الأهداف الموضوعية، التي تنشد ما هو خيراً، أو تنتهي إلى تحقّق النفع. ويحتوي التقدم على مراحل، تكون كلّ منها أكثر ازدهاراً أو أرقى من المرحلة السابقة عليها، كما تشير الكلمة إلى انتقال المجتمع البشري إلى مستوى أعلى، من حيث الثقافة والوعي، والقدرة الإنتاجية، والسيطرة على الطبيعة، وقد رأى بعض مفكري القرن التاسع عشر في التقدم مصطلحاً، يشير إلى حركة نحو المنطق والعدالة، وتأكيد المساواة بوصفها جوهر العدل.
وقد اقترنت فكرة التقدم، في أذهان العلماء، بالتغيّر؛ لأنها تتضمن الانتقال من البسيط إلى المركب، ومن الأقل تقدماً إلى الأكثر تقدماً ورقياً، إلا أن ثمة فارقاً بينهما، فالتغيّر الاجتماعي يشير في جوهره إلى البحث عن المبادئ التي تحكم الذبذبات الاجتماعية؛ ويقوم على تحويل موضوعي لأسبابها واتجاهاتها؛ في حين أن التقدم الاجتماعي، يتضمن مدخلاً معيارياً قيميّاً للحكم على الأحداث الاجتماعية. بالإضافة إلى أن التقدم الاجتماعي، يهتم بالبحث عن مجتمع أفضل بينما يهتم التغيّر الاجتماعي بالواقع، ويحمل التقدم في مضمونه الأساسي، ما ينبغي أن يكون؛ بينما يشير التغير الاجتماعي إلى ما هو موجود، أو ما هو كائن بالفعل.
آثار التخلف ونظرية التنمية
نقيض التقدّم هو التخلف الذي يصفه كثير من المهتمين بالاجتماع، بأنّهُ مستنقع يصعب الخلاص منه، ويتطلب الانتقال منه إلى التقدم جهودا تشاركية حثيثة، يقول الباحث رفعت محمد في هذا المضمار (برز مصطلح التخلّف بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مع حصول عدد كبير من البلدان المستعمَرة على الاستقلال. وذاع استعماله وكثرت الكتابات حوله ابتداءً من خمسينيات القرن الماضي وتجمعت خلال فترة قصيرة آلاف المقالات والأبحاث حول موضوع التخلف، ذاهبة في كل اتجاه ومنطلقة من محطات مختلفة ومنظورات متنوعة، لدرجة صار يصعب معها على الباحث تنسيق هذه المعطيات في كلٍّ توليفي، يوضح نظرية التخلف وتعريفه له).
لقد أصبح مصطلح التخلف، ونظرية التنمية التي يتضمنها بالضرورة، خاصاً بوضعية بلدان العالم الثالث بحيث تلازمت مفردات (العالم الثالث- التخلف- التنمية)، طارحة أكبر قضية أو تحدٍّ تواجهه البشرية في القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، ونعني به تحدّي النهوض بثلاثة أرباع البشرية كي تلتحق بركب بلدان العالم الأول (الصناعي الرأسمالي) وبلدان العالم الثاني (الاشتراكي) التي يُطلق عليها اسم البلدان المتقدمة.
هناك اشتراطات وضوابط ليس أمام المجتمع المتقدم إلا الالتزام بها وإدامتها بشكل حثيث ومستدام، حتى يبقى هذا المجتمع في دائرة المجتمعات المتقدمة دائما، ويحافظ على مركزه التقدمي ويتحاشى التراجع والسقوط إلى درجة أدنى والعودة إلى مستنقع التخلف، من هذه الاشتراطات وقد تكون الأهم:
- التفكير بطريقة الاستدامة: بمعنى أن تُعنى الأفكار التي تطرحها نخب المجتمع بمنح التقدم إيقاعا مستمرا على التجديد الايجابي، وهذا يعني أن تكون هنالك ديمومة للأفكار التقدمية في مجالات الحياة كافة، فكل مجال من مسببات ديمومة التقدم في المجتمع يجب أن تُدام وتُدعم بأفكار تقدمية لا تتوقف، فإذا أردنا كمجتمع البقاء في دائرة التقدم (سياسيا، اقتصاديا، اجتماعيا، علميا، صحيا وغيرها)، فيجب على النخب المعنية بالحفاظ على التقدم أن تضاعف من المخزون الفكري المبتكَر وليس المجترّ.
على أن تُمنَح الأولوية الفكرية للاجتماع، فالهدف هو خلق مجتمع متقدم، وبيئة متقدمة تنأى بنفسها عن (مستنقع التخلف)، وبهذه الطريقة نكون قد حمينا الدولة والمجتمع من التراجع والانزلاق إلى هاوية التخلف، وهذا يساعد بقوة على بناء حاضر متنامٍ ومستقبل معدّ له مسبقاً ومبنيّا بأفكار متوقدة متجددة تجعل من المجتمع أو البيئة مصنعا مستداما لصناعة التقدم بأفكار مدعومة بالديمومة والتجدد بشكل مستمر.
شروط الانتقال إلى الركب المتقدم
وفي حال تعلّق الأمر بالخروج من مستنقع التخلّف، وهذا يشمل الدول والمجتمعات المتأخرة، ومنها دول العالم الثالث، (والعراق يقع ضمن هذه الدائرة المتأخرة)، فإن الأمر سيبدو شاقّا إن لم يكن مستحيلا في الظروف الراهنة، لكن علم الاجتماع يبيح لكلّ المجتمعات المتأخرة ميزة الخروج من (مستنقع التخلف)، ولكن ضمن شروط قد تبدو بالغة الصعوبة لكنها ممكنة.
فما هي الشروط التي يتوجّب على المجتمعات المتأخرة تطبيقها والالتزام بها، حتى تكون قادرة على الالتحاق بالمجتمعات المتقدمة، علْماً إن تقدم المجتمع ينبع من داخله، وهذا هو أول الشروط التي ينبغي الالتزام بها، بمعنى لا يمكن لمجتمع أن يغادر بيئة ومستنقع التخلف ما لم تكن له الإرادة والقرار على التغيّر والتخلّص من التخلف، ومن ثم تبدأ الخطوات الأخرى الداعمة للإنجاز ومنها:
- أهم ما يدعم التقدم الاجتماعي والخلاص من محنة البيئة المتخلفة، عدم السقوط في فخ الربحية السريعة، والركض المحموم وراء الغنائم الفردية أو العائلية أو الحزبية (السياسية) الآنية، إذ ما فائدة الحصول على الربح الآني المحدود فيما يتعرض المجتمع كلّه إلى الخسارة.
- الفرد الغني في مجتمع فقير لن يكون سعيدا، وهذا يحتّم على النخب والمفكرين أن يسعوا بقوة إلى صناعة مجتمع يفكّر بالربح الأشمل والأكبر، وهو ما يسمى بالربح الجمعي الذي ينتج عن أفكار تدعم قيم التقدم، وتستنهض نكران الذات مجددا لدى أفراد المجتمع، وتنهض بتفكير إلى ما فوق المنفعة الفردية أو الفئوية السريعة على حساب ديمومة الربحية الجمعية لبناء المستقبل المنشود.
في خلاصة الأمر، نحن أمام نقيضين، التقدم والتخلف، البقاء في حضانة الأخير، تعني بقاء المجتمع جاهلا فقيرا مريضا مكبلا بهذا الثالوث القاتل، أما الخروج خارج بيئة أو مستنقع التخلف، فهي ضمان حاسم للانتقال إلى العالم المتقدم، ولكن وفق شروط كثيرة تبدأ بصناعة المجتمع الذي يفكّر بجدية بالخلاص من التخلّف بشكل جماعي، وترك المنافع الضيقة السريعة ومحوها كليّاً، لأنها من أخطر الأسباب التي تساعد على إدامة التأخر والتخلف الاجتماعي، وهو ما يجب أن نفكر بطرائق الخلاص منه على مدار الساعة!.
اضف تعليق