ان الحضارة التي تصنع وسائل الموت وتختلق الصراعات من أجل المصالح واكتناز الأموال، والضحايا دائما من الشعوب الأخرى التي تتقاتل نيابة عنهم وعن ضمان مصالحهم وتزايد ثرواتهم، هذه الحضارة لا تستحق أن تسمى بهذا الاسم الرفيع، إنها ببساطة تستحق تسمية أخرى، ربما يليق بها اسم حضارة الخوف والموت...
تتبجح الحضارة المعاصرة بأنها تغلَّبت على الخوف الذي عانت منه البشرية على مدى رحلتها منذ النشوء، أو على الأقل حدّت من الخوف إلى أدنى مستوياته، لكنّ سيول الخوف التي تعصف بعالمنا تفنّد هذا التبجّح والإدّعاء، فالخوف يزدهر يوما بعد آخر بسبب ما يدور بين الأقوياء من صراعات دامية يؤدّيها عوضاً عنهم شعوب ودول في حروب أو اقتتال بالوكالة.
فما هو الخوف؟
يقول العلماء المختصون إنّهُ هو (الشعور الناجم عن الخطر أو التهديد المتصوَّر، ويحدث في أنواع معينة من الكائنات الحية، ويقوم بدوره بالتسبب في تغيّر بالوظائف الأيضية والعضوية، ويفضي في نهاية المطاف إلى تغيير في السلوك، مثل الهروب، الاختباء، أو التجمد تجاه الأحداث المؤلمة التي يتصوّرها الفرد. وقد يحدث الخوف في البشر ردا على تحفيز معين يحدث في الوقت الحاضر، أو تحسّباً، كتوقع وجود تهديد محتمل في المستقبل كوجود خطر على الجسم أو الحياة عموما. وتنشأ استجابة الخوف من تصور لوجود خطر ما، مما يؤدي إلى المواجهة معه أو الهروب منه وتجنبه، وهذه الاستجابة في الحالات القصوى من الخوف تسمى الرعب والإرهاب، ويمكن أن تؤدي إلي التجمد أو الشلل).
والأمر المهم في هذا المجال، أنّ البشر والحيوانات، يمكن لهم تعديل الخوف من خلال عملية الإدراك والتعلم. وبالتالي يمكن الحكم على الخوف بأنه خوف عقلاني (منطقي) أو الخوف المناسب، وهناك أيضا الخوف غير العقلاني (غير منطقي) أو غير المناسب ويسمى بالرهاب.
هل حقا تمكنت الحضارة التي تتسيّد عالمنا اليوم من القضاء على الخوف أو التقليل من نسبته، وهل هناك أدّلة تؤكّد ذلك، أنا شخصيا بإمكاني نفيّ هذا الإدّعاء من خلال ما لاحظته ورأيته وامتلكتهُ من أدلّة داحضة لما يعلنه المختبئون وراء الأقوال والتصريحات الزائفة أو غير الصحيحة، وسأقدّم في هذه الحلقة من "كاميرا السبت" دليلا وحداً من بين أدلّة كثيرة.
في الأيام القليلة الماضية انتشر فديو قصير في وسائل التواصل الاجتماعي، وتابعته شخصيا في موقع بي بي سي عربي، يظهر فيه أب سوري وابنته التي لا يتجاوز عمرها سنةً ونصف، أول ما نلاحظهُ في هذا الفديو محاولة الأب لطرد الخوف عن طفلتهِ وعنهُ أيضا، الخوف الذي يسبق ويتزامن ويعقب الانفجارات الهائلة التي تحدثها القذائف المنطلقة من الطائرات الحربية.
أي مفارقة وأي حزن وأي أسف يجتاح الإنسان وهو يتابع هذا الفديو الصادم، الأب يحتضن طفلته بذراعيه ويلصقها على صدره، يتحدث معها والابتسامة مرسومة على شفتيه، يرافق ذلك هدير طائرة يتصاعد في الأجواء القريبة، وحين تطلق الصاروخ أو المقذوف عادة يبقى الإنسان في حالة خوف وترقّب وقلق، لكنّ الأب لم يكن يُظهر الخوف أو القلق لطفلته، بل حاول أن يطرد خوف الطفلة من الانفجار بالإيحاء لها بأن الدويّ الصاعق للانفجار ما هو إلا نوع من الألعاب النارية التي يتم إطلاقها في الأعياد والمناسبات، وحين يحدث الانفجار يضحك الأب بصوت عال، وترافقه كركرة طفلته وهي تتصور أن صوت الانفجار ما هو إلا صوت مسالم لألعاب المناسبات المفرحة أو الوطنية.
وهكذا يتمكن الأب من طرد الخوف من قلب ابنته، ومن قلبه أيضا، وبدلا من هواجس الخوف والهلع، تنطلق قهقهة الأب ترافقها كركرة الطفلة بشكل متواصل كلّما حدث صوت انفجار حقيقي وليس صوت مفرقعات المناسبات!!.
حين سئِل الأب ما هو شعورك وأنت تلاعب طفلتك وأنت تترقّب وقوع الانفجار، ألم تفكّر بأنك وطفلتك يمكن أن تكونا هدف للمقذوف المنطلق من الطائرة، بماذا كنت تفكر وكيف كنت تتمكن من دمج الضحك مع الخوف عند وقوع الانفجار؟
قال الأب: كنت أضحك أمام طفلتي كي أطرد عنها الخوف، لكنني في اللحظة نفسها كنت أشعر بالرعب وتسودني هواجس الموت، خوفا من سقوط الصاروخ فوق بيتي، لذلك حين كنّا نسمع صوت الانفجار أنا وابنتي، كنّا نضحك بصوت عال، السبب بالنسبة لي أن الانفجار لم يقضِ علينا ولم يسقط فوق بيتنا، أما بالنسبة لابنتي فهو تصوّرها بأنّ صوت يعود لمفرقعات الأعياد أو المناسبات!!.
أية مفارقة هذه، وأيّ ألم، وأية أحزان هائلة ترافق حياة الناس الأبرياء وهم يتلقون الموت من الأعالي بدلا من موت أولئك الذين يصنعون الحروب، ويؤمّنون أنفسهم من أخطارها، ويلقون بها على شعوب ودول وأرواح ليست أرواحهم، أ هذه هي حضارتنا التي تقود العالم اليوم؟، هذا السؤال يجب أن يجيب عنه قادة العالم المتحضّر وساستهِ، وفي حال عجزوا عن الاجابة المقنعة، فهذا يعني بأنّ حضارتهم ما هي إلا ضحك على الذقون.
وأن الحضارة التي تصنع وسائل الموت وتختلق الصراعات من أجل المصالح واكتناز الأموال، والضحايا دائما من الشعوب الأخرى التي تتقاتل نيابة عنهم وعن ضمان مصالحهم وتزايد ثرواتهم، هذه الحضارة لا تستحق أن تسمى بهذا الاسم الرفيع، إنها ببساطة تستحق تسمية أخرى، ربما يليق بها اسم (حضارة الخوف والموت).. أليس كذلك؟؟
اضف تعليق