ربما يتبادر الى ذهن القارئ من الوهلة الاولى، أن ثمة تحاملا تتعرض له القنوات الفضائية العربية، وهي التي تبذل مليارات الدولارات، وقد وصل عددها الى 1400 قناة في شتى التوجهات والاختصاصات، فهناك جهود فكرية وذهنية وعضلية ومادية تبذل لنشر رسائل متعددة الى المخاطب، في إطار حرية الرأي بمساعدة الاقمار الصناعية المنتجة غربياً، بمعنى أن لكل جهة او شخص او حتى نظام حكم، يقف خلف قناة من هذا العدد الهائل، غاية مبررة بالنسبة له، بغض النظر عن المحتوى. بيد أن تداعيات الوضع الاجتماعي والثقافي، وما يفرزه الواقع من ظواهر ومتبنيات جديدة في المنظومة الثقافية، من عادات وسلوكيات وحتى نمط العيش، يدعونا لتسليط الضوء على بعض البرامج المعروضة الى المشاهد العربي من عدد لا بأس به من القنوات الفضائية.
نظرة سريعة الى تصنيف القنوات الفضائية حسب احصائية اتحاد اذاعات الدول العربية للعام الماضي، يتبين لنا طبيعة الخطاب الموجه وغاياته، ففي مقابل 323 قناة شاملة، هنالك 170 قناة رياضية، و152 قناة للمسلسلات والدراما، و124 قناة للغناء والطرب، الى جانب 248 قناة خاصة بالدعايات والإعلانات، نلاحظ؛ 95 قناة دينية، و86 قناة اخبارية، و26 قناة للاطفال، و16 قناة وثائقية، و17 قناة تعليمية، و16 قناة للأسرة، وتسع قنوات ثقافية.
واذا اجرينا مقاربة بين هذه الاحصائية وبين تأثيرات هذه القنوات على المشاهد، نجد أن التفاهات لا تنحصر على قنوات الغناء والطرب والمسلسلات، كما يكاد يجمع عليها كثيرون، إنما العدوى سرت الى قنوات إخبارية ذات اهداف سياسية واضحة، وقنوات الاطفال، وحتى بعض القنوات الدينية.
وحتى لا نضيف شيئاً آخر على الانعكاسات السلبية للمسلسلات والدراما و ايضاً الغناء والطرب، على الوضع الاجتماعي والأسري، نشير الى الانعكاسات السلبية للخطاب السياسي المتوتر بسبب الأدلجة والتسييس – إن صح التعبير- وايضاً للخطاب الطائفي المدمّر لبعض القنوات، الى جانب ما يتعرض له الطفل العربي من إقحام عنيف الى عالم الوهم والتحليق بخياله بعيداً عن واقعه، مما ينمي فيه حالة الازدواجية والتهرّب الدائم من الواقع، لاسيما عندما يجد انه يسبب ضغوطاً عليه، بسبب ظروف المعيشة والحرب وانعدام الامن وغيرها. كذلك يمكن الاشارة الى تفاهات السياسة والطائفية التي تخلق كلٌ منها حالة من الخيبة واليأس من الإصلاح، وأن يأتي يوم تسير فيه الأمور بالشكل الصحيح، بحيث لا تراق قطرة دم في سبيل مصلحة هذه الجماعة او تلك الطائفة.
ولو لاحظنا – مثلاً- برنامج "الاتجاه المعاكس" التي تحرص على استمراريته قناة "الجزيرة"، نجد انه يركز دائماً على الحالات السلبية والاسقاطات والفضائح والهزائم، فيما تكون طاولة الحوار عبارة عن حرب كلامية تضيع فيها القيم والمعايير الاخلاقية. كذلك تفعل سائر القنوات في برامجها التي تبدو جدّية وعلى مستوى من المهنية والأداء الفني الجيد، بيد أنه لا يرقى فوق التحريض وتشويه الحقائق حتى وإن كان بشكل مكشوف بإمكان المشاهد ملاحظة التناقض في المواقف، أو عدم صحة بعض المعلومات الواردة.
وربما يتسائل البعض عن سبب تسليط الاضواء على خبر ولادة طفلة صغيرة في لندن، في مقابل سقوط عشرات القتلى من الاطفال في اليمن تحت الانقاض بفعل القصف السعودي، سوى أن هذه الطفلة تعود الى القصر الملكي، بينما أطفال اليمن او العراق، من جنس آخر! والمثير حقاً، ان تجري قناة "بي بي سي" لقاءاً مع المتحدث باسم القصر الملكي البريطاني، وهو يتحدث باللغة العربية بصعوبة، ويعلن أن "هذا الحدث يحظى باهتمام الشعب البريطاني وشعوب عديدة في العالم"!
السؤال هنا؛ ما الذي يدفع هذا العدد الهائل من القنوات نحو هكذا منهج؟.
لاشك هنالك اسباب ودوافع عدّة تقف خلف هذا التوجه في الاعلام المرئي، منها: الكسب المادي، وهو يتعلق بالقنوات غير "الجادّة" متمثلة بالرياضة والغناء والدراما والاطفال، فاذا عرفنا ان 729 هيئة خاصة هي التي تدير القنوات الفضائية العربية، مقابل 29 هيئة عامة فقط، نعرف حجم الاستثمار الهائل والتطلع نحو الربح السريع من وراء بث البرامج المختلفة والمتنوعة من عشرات القنوات.
أما الهدف الثاني، وهو الأخطر، متمثل في تسطيح الوعي وتعويم الثقافة لدى المشاهد العربي، لاسيما وأن شريحة لا بأس بها في البلاد العربية وفي خارجها، يجد ان البرامج غير الجادّة، ما يبعده عن صخب الحياة ومشاكلها وأزماتها. ولعل نسبة كبيرة من هذه الشريحة هم الشباب والفتيان من الجنسين. ومن يتابع الشأن السياسي، فانه يجد ضالته في الاثارات والمهاترات، وربما يحقق انتصاراً لنفسه وذاته، من خلال بعض البرامج الحوارية او الاخبارية، بغض النظر عن النتائج على الارض، او الاحتكام الى معايير او قيم معينة.
إن حالة التحلل من الاخلاق والاعراف والتقاليد، وايضاً صناعة أبطال وهميين ورموز يحتذى بها، تجعل المشاهد العربي، مصاباً بحالتين مرضيتين؛ الاولى: الانطوائية واللامسؤولية إزاء كل ما يجري من ويلات ومحن، وسفك للدماء بحجج مختلفة، والثانية: الهشاشة في الفكر والثقافة، بحيث يصعب عليه التمييز بين الغثّ والسمين، والصح من الخطأ، وبين الحق والباطل. والنتيجة؛ سهولة التحكّم به من قبل دوائر مخابراتية واقتصادية عالمية، فهو لن يكون – كما ينبغي- صانعاً للحدث، بخلاف ما تصور البعض خلال أحداث "الربيع العربي"، إنما هو المنفذ على مسرح الاحداث، فالتظاهرات الاحتجاجية التي عمّت مدن مصر ضد نظام مبارك، بدعوى الديكتاتورية العسكرية والقمع والاستبداد، تحولت فيما بعد الى تظاهرات لدعم نظام السيسي، وهو أحد أركان المؤسسة العسكرية المصرية، الذي تحوّل بين ليلة وضحاها الى رجل سياسي مدني.
هذا المآل هو الذي يجعل المواطن العربي أمام مفاجآت غير متوقعة، ليس بوسعه سوى التكيّف معها، وحتى القبول بها عن طيب خاطر! حتى وإن كلف ذلك بعض التنازل عن الثوابت والقيم والمبادئ.
اضف تعليق