يبدو إننا شعب تعوَّد على العنف، وأدار ظهره لرجاحة العقل والحكمة، وإلا بماذا نفسر ما حدث، وكيف تحولت ليلة زفاف إلى مأتم؟، كيف نعالج هذا النوع من العنف، ومن الجهة أو المؤسسة أو الشخصية المسؤولة عن إطفاء العنف الأهوج والخارج عن السيطرة كما حدث في هذا العرس؟...
بعض المناسبات الجميلة تحدث في حياة الإنسان مرة واحدة، منها مثلا ليلة الزفّة أو العرس، العروس تتجمّل بحلّة بيضاء، قلبُها ينبض بمشاعر غريبة، العريس ينتظر اللحظات الأولى من ليلة الدخلة بلهفة، الأهل فرحون ومستعدون لهذا الحدث الجميل، تتجمع السيارات عند باب بيت العريس، موديلات حديثة وألوان مختلفة، بيضاء، زرقاء، صفراء، حمراء، خضراء ومن كلّ الألوان، السيارة الأجمل والأحلى هي التي ستحمل العريس والعروس في زفة تشترك بها عشرات السيارات، لتحمل عشرات الرجال والنساء، شباب ومن كل الفئات العمرية.
أكملت العروس زينتها، رنَّ موبايلها، قرأت اسم عريسها في الشاشة، لم تستطع الإجابة، ليس خجلا ولا ارتباكاً، بل بسبب نداءات النساء لها كي تخرج من بيت أبيها، لتركب سيارة العرس وتذهب مع فارس أحلامها إلى بيتها الجديد، صعدت العروس وإلى جانبها من جهة اليمين أختها الكبيرة، البرقع اللؤلؤ يغطي رأسها ووجهها، زوجها الذي يجلس إلى جنبها من اليسار الم يرَ وجه عروسه، انطلقت الزفّة، سيارة العريس والعروس في المقدمة.
سرب طويل من السيارات، الفرح يغمر الجميع، الأخت الكبيرة تهمس في أذن العروس بكلمات طمأنة، وتوصيات حريصة واضحة زرعت السكينة والأمان في قلب العروس، الزوج في حالة ارتباك وهو ينظر إلى كثرة السيارات التي أخذت تطلق أصوات المنبهات (الهورنات)، بتكرار وقوة، شعر الزوج بشيء من الضيق والحرج، وتسلل الخوف إلى قلبه بدلا من الفرح في هذه الليلة التي قد لا تتكرر في حياته، لقد أوصى أخاه الكبير أن يطلب من الشباب الهدوء وقيادة السيارات بطريقة صحيحة وعدم التسابق أو القيام بحركات بهلوانية تعرض الناس للخطر.
تلك الوصية لم تأخذ طريقها للتنفيذ، معظم الشباب كانوا يقودون سياراتهم بتهوّر واضح، رغم أن الطريق كان يكتظّ بالسيارات من كل الأنواع والأحجام، وقبل أن تصل سيارة العروس إلى بيت الزوجية الجديد، ظهرت فجأة شاحنة كبيرة تحمل آلاف الأطنان من قضبان الحديد التي تستخدم في بناء السقوف (الصبّ المسلح بالحديد)، أخرج العريس موبايله واتصل بأخيه الكبير، وحذره من خطر الشاحنة الكبيرة وطلب منه أن تتوقف جميع سيارات الزفة.
لكن القدر كان أسرع وأقوى من كل التحذيرات، فقد قرر أحد الشبان وهو يقود سيارته الحمراء أن يتجاوز شاحنة الحديد، وفي لحظات التسابق كان أحد قضبان الحديد قد برز خارجا من جانب الشاحنة وقد مزّق باب السيارة الحمراء من الجانب الأيمن، فأحدث شرخا عميقا فيه، جنّ جنون السائق الشاب صاحب السيارة الحمراء، واعترض طريق شاحنة الحديد التي اضطرّ سائقها للتوقف، وفي لحظات حدث عراك رهيب بالأيدي واللكمات والصراخ.
لم تكن اللكمات والأيدي والصراخ أدوات كافية للعراك، فقد تدخلت عشيرتا الجانبين (عشيرة صاحب شاحنة الحديد وعشيرة العريس)، في هذه المعركة التي اشتعلت نيرانها بسرعة عجيبة لتشمل الجميع، ولم تكفِ الكلمات والأيدي، فحضرَ الرصاص، حين أطلق أحد الشبان من فريق شاحنة الحديد رصاصة على رأس (أخ العريس)، ليرديه فورا، وليتحوّل العرس إلى مأتم كبير.
أُعيدَتْ العروس إلى بيت أهلها، وتوجّهت السيارات إلى إحدى المقابر لتدفن شابا لم يصل سقف العشرين، ولتبدأ بعدها رحلة مكوكية أو مارثونية بين العشيرتين كي تحق الحقّ وتقتص من المخطئ، ولكن في كل الأحوال، لا يجدي إحقاق الحق بشيء، فقد ذهب شاب في ربيع العمر إلى مقبرة موحشة، وأعادوا العروس إلى بيت أبيها بعد أن ظلّت تحلم طيلة عمرها بالانتقال إلى عش الزوجية الذهبي، والزوج الشاب هو صاحب المصاب الكبير، لأنه فقد أخاه إلى الأبد، وفقد عروسه، وضاعت ليلة كان ينتظرها طويلا.
الآن علينا أن نبحث في أسباب ما حدث، من هو المسؤول، ولماذا تصل نهايات الأمور إلى هذه النتائج القاسية، الأسباب متداخلة وكثيرة والجميع مسؤول عنها، أولا نحن شعب لا يحترم الطريق ولا يعرف استخدامه الصحيح الآمن، ثانيا، كيف لشاحنة حديد تزج نفسها في سيارات الزفة بهذه الطريقة، ثالثا، لماذا لم يكن هناك عقل راجح حكيم يحتوي الحادث والعراق قبل حدوثه، رابعا، هذا العنف ما هو مصدره، ولماذا الرصاص وعدم الاكتفاء بالكلام والأيدي وإن كان هذا الأسلوب غير مقبول أيضا.
يبدو إننا شعب تعوَّد على العنف، وأدار ظهره لرجاحة العقل والحكمة، وإلا بماذا نفسر ما حدث، وكيف تحولت ليلة زفاف إلى مأتم؟، كيف نعالج هذا النوع من العنف، ومن الجهة أو المؤسسة أو الشخصية المسؤولة عن إطفاء العنف الأهوج والخارج عن السيطرة كما حدث في هذا العرس؟، في الحقيقة نحن شعب يحتاج أن يتعلم كيف يعيش بسلام، وهي ثقافة تبدأ من الأسرة وتشترك فيها المدرسة، والإعلام والمنظمات الثقافية ورجال الدين.
نحن شعب يحتاج إلى نبذ العنف بشكل مطلق، وعلينا أن نبدأ بأطفالنا، نزرع في عقولهم الحكمة والتروّي، وفي نفوسهم وقلوبهم الرحمة والمحبة والتعاون، وحب الحوار وتفضيله على العراك أو الكلام الخشن، فالحوار الهادئ يمكنه أن يحلّ أعقد المشكلات وأصعبها، علينا جميعا أن نتعلم كيفية نبذ العنف بشكل مطلق ونهائي.
اضف تعليق