الفساد هذا الوباء الذي دمّر أواصر الثقة بين المواطن ودولتهِ وحكومته، لذا لا يمكن استعادة الثقة بين المواطنين من جهة وحكومتهم ودولتهم من جهة أخرى، إلا بالقضاء على الفساد ورؤوسه وحيتانه، وإشعار المواطن بأنه يعيش تحت مظلة التكافؤ والمساواة التي يفرضها الدستور والقوانين بقوة تطبيقها الفعلي...
لم يكن غيرنا في الزقاق، أنا وهو، رجلٌ في الثلاثين وإن بدا أكبر من عمره، كان يسيرُ نحوي وأنا أتقدّم إليه بخطوات متعجّلة، كنتُ أروم الوصول إلى الشارع العام ومن ثم إلى مركز المدينة، رأيتهُ يُمسك بين يديه بكيس صغير من النايلون الأسود، لم أعرف ماذا يوجد في هذا الكيس، ولا أعرف أيضا لماذا يقبض على الكيس بقوة وخوف وحذر، تساءلتُ مع نفسي، تُرى ماذا يوجد في هذا الكيس الصغير، ولماذا يتشبث به بهذه الطريقة المثيرة للاستغراب؟
صارت المسافة التي تفصل بيننا مترا واحدا، فتح شفتيه بخجل، ألقى التحية وقال:
- أستاذ قبل أيام رأيتُ شخصا يشبهك، يتحدث في التلفزيون، هل هو أنت؟
أجبتهُ:
- نعم أحياناً أظهر في التلفزيون في نشاطات ثقافية.
قال:
- إذاً أستاذ أستطيع أن أثق بك وأسألك سؤالا مصيرياً بالنسبة لي!
قلتُ له:
- تفضل قل ما تشاء.
قال:
- عندي مبلغ من المال، برأيك كيف أكون مطمئنا عليه من السرقة؟ (وأشار إلى الكيس الأسود الذي يقبض عليه بيديه بقوة).
سألتهُ:
- كم قيمة المبلغ؟
أجاب:
- مليون دينار أستاذ.
قلتُ له:
- الحل سهل وبسط جدا، اذهبْ إلى المصرف الحكومي و ودِّعْ مبلغك فيه.
أجاب بقناعة تامة:
- أستاذ المصارف (مو ثقة).
قلتُ له:
- لكنّ المصرف يعود للحكومة.
فتبسَّم وقال في خجل:
- أستاذ أنا لا أثق بالمصرف، وأخشى أن لا أستطيع سحب المبلغ حين أحتاجهُ.
ضحكتُ وقلتُ له:
- قبل أيام كنت في المصرف الحكومي، ورأيت أحدهم يحمل حقيبة كبيرة ممتلئة بالنقود، أودعها كلّها في المصرف، وأنت خائف على مليون دينار فقط؟
قال الرجل الذي بدا متعَباً:
- أستاذ صاحب الحقيبة الممتلئة بملايين كثيرة، لا يخشى فقدان مبلغه، لأنه يمتلك عدة حقائب ممتلئة بالأموال، أما أنا فلا أمتلك سوى هذا المليون الذي جمعته في سنوات طويلة وأعمال شاقة، ولا أريد أن تضيع جهودي هباءً!.
تركني ومضى في حال سبيله، ومضيتُ أنا إلى الشارع العام كي أستقل سيارة إلى مركز المدينة، في البداية شعرت بغرابة الرجل وموقفه، ورحتُ أتساءَل مع نفسي، أيُعقَل يوجد أناس فاقدي الثقة بالدولة إلى هذه الدرجة؟ ثم تساءلت أيضا، لماذا وصل الحال بهذا الرجل إلى هذا الحدّ، هل حقاً هو لا يثق بالدولة رغم أن مبلغه الخائف عليه قد لا يتجاوز عشر راتب عضو برلمان مثلا، أو موظف كبير في الحكومة؟
ماذا يمكن أنْ نفسر عدم الثقة بالدولة، ومن أحدث هذا الشرخ المخيف بين الدولة ومواطنيها، هل نترك مثل هذا الموقف يمر مرور الكرام، أم على الحكومة والمسؤولين والنخب أن تقف عند هذه الحالة طويلا، وتسأل نفسها بصدق: (لماذا يخشى المواطن أن يودع مبلغا بسيطا كهذا في مصارف الدولة)؟، أين يكمن السبب، وكم مثل هذا المواطن في العراق لا يثقون بدولتهم.
معرفة الأسباب أمر غاية في الأهمية، ودراسة مثل هذه الحالة من قبل المعنيين أمر بالغ الأهمية أيضا، بل قد يصل إلى مرتبة الظواهر والمؤشرات المصيرية، فحين لا يأتمن مواطن جانب الدولة، ويخشى إيداع مبلغ بسيط في أحد مصارفها، فهذا دليل على أن المواطن العراقي خائف من حاضره ومستقبله، كما أن جميع الروابط التي تربطه بدولته وحكومته مقطوعة تماما، وإلا بماذا نفسّر خوف المواطن على مبلغه المالي البسيط قياسا للرواتب الضخمة التي يتقاضاها الموظفون الكبار؟
ماذا نستنتج من هذا الموقف؟ ونعني به خشية المواطن من مؤسسات ودوائر الدولة، هناك عدة نقاط وأسباب تقف وراء فقدان المواطن لثقته بالدولة والحكومة:
- غياب العدالة الاجتماعية أو ضعفها في أفضل الأحوال.
- عدم تكافؤ الفرص في العمل وسواه.
- الفوارق الطبقية الواضحة للعيان بين شرائح وطبقات المجتمع.
- الفجوة الكبيرة في رواتب الموظفين إذا ما تمت مقارنتها وفق سلّم الرواتب الحالي.
- الرجل الكاسب لا يحصل إلا على قوت يومه، وهو بالكاد يمكنه ادّخار مبلغ يومي بسيط، ولعل الرجل الذي تحدثنا عنه جمع مبلغ المليون دينار في سنوات طويلة من العمل الشاق، فيما حيتان الفساد وأذنابهم يعطون أضعاف مبلغ الرجل كمصروف يومي لأبنائهم!.
هل من سبيل إلى إعادة ثقة المواطن بالدولة والحكومة وكيف؟، وهل نحن نبالغ في وصف واقع المواطن؟
أولا: نحن لا نبالغ في عرض هذه الحكاية الواقعية، وحتما هناك حكايات وقصص تفوق ما أوردناه عن المواطن الذي يبغي الحفاظ على مبلغ بسيط من الضياع أو السرقة.
ثانيا: على الحكومة، ومؤسساتها، وعلى الدولة أيضا، أن تستعيد ثقة المواطن بها، كيف يمكن ذلك؟ الأمر واضح ومفهوم، إنه العدل الاجتماعي، والحفاظ على حقوق المواطنين، وتقليص الفجوة الاقتصادية بين الطبقات العراقية.
كلّ ما تقدَّم في أعلاه من أسباب ونتائج، يقف وراءها (الفساد)، هذا الوباء الذي دمّر أواصر الثقة بين المواطن ودولتهِ وحكومته، لذا لا يمكن استعادة الثقة بين المواطنين من جهة وحكومتهم ودولتهم من جهة أخرى، إلا بالقضاء على الفساد ورؤوسه وحيتانه، وإشعار المواطن بأنه يعيش تحت مظلة التكافؤ والمساواة التي يفرضها الدستور والقوانين بقوة تطبيقها الفعلي.
اضف تعليق