الشاب الذي فُقئت عينه خسرها طيلة عمره المتبّقي، وسوف يعيش بوجه ناقص ومشوّه، من الذي يتحمل مسؤولية هذا الحادث، أطراف عديدة تشترك في المسؤولية، أولهم: الدولة، الحكومة، ويأتي بعدهما: التجار المستوردين، منافذ الكمارك، الأجهزة الأمنية المختصة، حتى الإعلام يتحمّل مسؤوليته الكبيرة في القضاء على الحروب المستنسَخة....
خُلِقَ الإنسان في أحسن تقويم، حتى بلغ التناسق الخارجي لأعضائه وأطرافه الظاهرة، غاية في التوازن والاتساق، ولنا أن نتصور لو أنهُ خلق بأطرافٍ متباينة!، بمعنى لو كانت إحدى يديه أو ساقيه أطول من الأخرى، كيف سنرى الإنسان وما هو الشعور الذي يتولَّد لدينا ونحنُ نرى وجه بشري بعين صغيرة وإحدى تكبرها بأضعاف، لا شك سوف نكون في شعور مزعج ومقزز.
بسبب موجة الحر راجع كثير منا المستشفيات أو الصيدليات، صباح أمس اضطررتُ لزيارة المستشفى، كي أتعالج من حساسية الجلد التي أصابتني بسبب ارتفاع درجات الحرارة، وكالعادة سترى في المستشفى الكثير من الحالات والإصابات التي تُثبت بأن الإنسان خُلق في أحسن تقويم، لأنك سوف ترى يداً مبتورة أو معوجّة، وساقا مكسورة أو مبتورة، وقد ترى أحدهم مهشّم الرأس بسبب حادث دهس أو غيره، هذه المشاهد متوقَّع أن تراها وأنت تراجع المستشفى، لتكتشف بعض نِعَم الخالق على الخلْق.
ما لم أتوقَّعه هو رؤيتي لشاب في مقتبل العمر، إحدى عينيْه مفقوءة، سوادها متورّم، وفصّها خارج العين، كأنها كرة مدمّاة تتدلى على وجنة الشاب مفتول العضلات، ما هو الشعور الذي سيصيبك وأنت ترى مثل هذا المنظر المؤسف والمقزز في وقت واح، كانت هناك مقاعد فارغة في الاستشارية الطبيبة، تعمَّدتُ الجلوس إلى جانب الشاب كي أعرف ماذا أصابه ولماذا عينه خارج محجرها؟
سألتُ الشاب بهدوء: ما الذي أصاب عينك يا بُنيّ؟
لم يردّ الشاب عن سؤالي كأنّه لم يسمعني، كنتُ أجلس إلى جانب عينه السليمة، توقعتُ أنه سينظر إليّ بعد أن سمع سؤالي، لكنه لم يجبني ولم ينظر إليّ، كانت فتاة في مقتبل العمر أيضل، تجلس إلى جانبه من الجهة الأخرى، نهضتُ من مكاني، تمشّيتُ فليلا ثم عدتُ إلى الجلوس ولكن هذه المرة لم أجلس إلى جانب الشاب، بل جلست قرب الفتاة، وسألتها:
- هل هو زوجك؟
- بل هو أخي...
- ماذا أصاب عينه؟
- طلقة من بندقية أطفال!
- مَنْ أطلقها عليه؟
- أخوه الأصغر عمره خمس سنوات..
المفارقة في هذا الحادث أن الشاب المصاب، هو الذي اشترى البندقية لأخيه الصغير بمناسبة عيد ميلاده ولم يكن يخطر في باله أنّ هديته لأخيه سوف تطفئ عينه!!.
واصلت الفتاة كلامها: هذه ليست المرة الأولى التي يقع فيها مثل هذا الحادث، في العيد الماضي أُصيبت طفلة صغيرة جيراننا في عينها أيضا، أخوها أطلق عليها طلقة من بندقية كاذبة، وفقدت عينها ولم تنفع معها العمليات الجراحية التي أجرتها، لا في الداخل ولا في الخارج.
نظرتُ إلى الشاب الحزين المحبط، وتمنيت له الشفاء، ومازحته بقول معروف (وجنَتْ على نفسها براقش)، فاختلطت في وجهه مشاعر شتى أبلغها وضوحا الحزن والأسف.
السؤال الآن هذه الحروب المستنسَخة من زرعها في نفوس الأطفال وعقولهم، فالمعروف أن الطفل يولد صفحة بيضاء (نحن الكبار نكتبها)، ونعلمها ونربيها كما نشاء، وإلا من المحال أن يولَد الطفل إلى الحياة وفي عقله وقلبه حبّ للرصاص والبنادق، بل نحن الكبار مَن يعلمه هذا الحب البائس، حب الرصاص أو حب الموت.
أتذكّر تلك الأفلام التي كانت تُعرَض على الناس مباشرة في الشاشة الصغيرة لصور من المعركة، كانت الجثث بالمئات أمام المشاهدين وهي مقطعة الأوصال، وكان الأطفال يرون ذلك بأعينهم، والمراهقون والشباب كذلك، فما هي النتيجة من رؤية مثل هذه الأفلام الوثائقية المباشرة، لماذا لم نعرض على أطفالنا صورا تزرع في نفوسهم حب الحياة والتعاون والتفاؤل والعلاقات الإنسانية المتكافئة.
ولو أتينا إلى ما تعرضه علينا أفلام هوليود وغيرها من عنف ونار ورصاص وموت، فإننا لا نتردد عن القول بأن من ينتج هذه النوعية من أفلام التوحش والعنف، هدفه تدمير الحياة، وتشويه القيم، والإساءة للإنسان ومشاعره وتدمير رغبته في العيش بسلام، ومنعه عن الانشغال بما هو مفيد ومجدي.
شرّع مجلس النواب العراقي قبل شهور أو أكثر تشريعا يمنع (التجار) من استيراد الأسلحة البلاستيكية الخاصة بالأطفال بكل أنواعها، ولكن ما هي النتيجة؟؟، إن مجرّد جولة سريعة في أسواق الأطفال سوف نجد آلاف البنادق والمسدسات المعروضة للبيع في المحال، ماذا يعني هذا؟، إنه يعني أمرين واضحين هما:
- الأول: عدم التزام المستوردين بقرارات الدولة والحكومة والمشرّعين في تحدٍّ سافر للقوانين من جهة، ومن جهة أخرى هذا السلوك يُظهر لنا جشع وطمع ولا إنسانية بعض المستوردين وتفضيلهم الحصول على الربح حتى لو كان على حساب صحة الناس والأطفال على نحو الخصوص.
- الثاني: فشل الدولة والجهات المختصة في ملاحقة المخالفين من المستوردين، وعدم مقاضاة ومعاقبة من يجلب هذا النوع من الأسلحة ويساهم في استنساخ الحروب ويزجَّها في أوساط الأطفال والمجتمع.
الشاب الذي فُقئت عينه خسرها طيلة عمره المتبّقي، وسوف يعيش بوجه ناقص ومشوّه، من الذي يتحمل مسؤولية هذا الحادث، أطراف عديدة تشترك في المسؤولية، أولهم: الدولة، الحكومة، ويأتي بعدهما: التجار المستوردين، منافذ الكمارك، الأجهزة الأمنية المختصة، حتى الإعلام يتحمّل مسؤوليته الكبيرة في القضاء على الحروب المستنسَخة.
اضف تعليق