المشهد الأخير في جولتنا هذه، حدث قبل أن يدخل النائب إلى الفندق، كان أحدهم يدفع عربة صغيرة مصنوعة من الخشب، توقّف فجأة عند النائب، سلَّم عليه وقال له: سيادة النائب، هل تعلم بأنني تركت عائلتي في مدينتي الناصرية وجئت إلى هذه المدينة، أدفع هذه العربة....
معظم البرلمانيين العراقيين يعيشون مع الناس، ويعرفونهم عن قرب ويروْنَ نواقصهم ومشكلاتهم، لأن معظم النواب خرجوا من بين هؤلاء الناس، ولكن ما أن يصل النائب إلى قبة البرلمان، ويبدأ يتنعّم بامتيازاته المالية والنفوذ والوجاهة، حتى ينسى الناس ومشاكلهم، وقد لا يعرف هؤلاء البرلمانيون أنّ المواطن البسيط المتعب ينظر إليهم كمنقذين له من الأوضاع البائسة التي تحاصره، بدءاً من سوء الخدمات، والبطالة، وانعدام الضمان الصحي، وليس انتهاءً بالمحسوبية والحزبية التي غيَّبتْ العدالة والإنصاف في التعامل مع الفرص المتاحة لعموم الشعب!.
في يوم رمضاني جميل زار مدينتنا أحد النواب وهو من أصدقائنا، وكان يتوجس من دعوتنا له وقد خصصناها للاحتفال به كمبدع، رأينا بعض القلق في عيونه وملامح وجهه، لكنه بالنتيجة لاحظ كيف تعامل معه الجميع، وكيف رحّبوا به ترحابا يشي بكرم وطيبة وأخلاق رفيعة، وقدموا له الاحترام مشفوعا بكلمات الحفاوة والمحبة، وبعد الإفطار وتناول الشاي، وتبادل الأحاديث المختلفة، وجدنا رغبة لدى السيد النائب بالتجوّل في إحدى مناطق المدينة القديمة.
خرجنا بعد ساعتين تقريبا، كان الليل منيراً بمصابيح واجهات المحال التجارية والباعة، الأسواق تضج بالناس، الزائرون كثر، كان الناس وخاصة الشباب يسلمون على النائب المعروف لهم، ومعظمهم كانوا يلتقطون معه (سيلفي)، وقد امتدت جولتنا ما يقارب أربع ساعات، انتهت عند الثانية بعد منتصف الليل.
خلال هذه الجولة عاش النائب أجواءً ربما كان لا يتوقّعها، تلك الوقائع والأجواء أظهرت للنائب بأن العراقيين أناس طيّبون بسطاء، يكدّون ليلا ونهارا من أجل الحصول على لقمة حلال، ومع كل ما يبذلونه من مشقّة وتعب للحصول على أرزاقهم، لكنهم يتحلّون بنفوس لطيفة مطمئنة ومستبشرة، رغم أن الكثير من المؤشرات السياسية والخدمية لا تبشر بذلك.
في هذه الجولة مع السيد النائب، ذهبنا إلى إحدى المناطق الشعبية القديمة، كان يوجد فيها مطعم شعبي، يبيع أكلة عراقية شهيرة تسمى (باقلاء بالدهن)، وكان النائب قد أبدى رغبته بتناول هذه الأكلة كوجبة سحور، في الطريق إلى المطعم، كان الشباب يستوقفون النائب، بعضهم يطرح عليه مشكلة أو عقبة ما، بعضهم يلتقطون معه الصور، لكن أغلب الشباب كانوا يشكون من قلّة فرص العمل، ومن الظلم والتمايز بينهم وبين ذوي الواسطات والمحسوبية.
قال أحد الشباب للنائب: (هناك عائلات كاملة تستولي على الوظائف في دوائر حكومية، والذي ليس لديه واسطة يبقى عاطلا محروما، يدمره الفراغ ويقتله القهر)!.
حين وصلنا للمطعم بعد منتصف الليل، رأينا الزبائن الشعبيين يتكدسون في المطعم، ويجلسون خارجه على مقاعد خشب وكراسي بلاستك، وكثير منهم يتكدسون عند الطباخ الذي يقدم لهم صحون الباقلاء بالدهن وفوقها أقراص ودوائر من البيض المقلي والبصل المحموس، رحّب بنا صاحب المطعم وعماله، كان الزبائن والعمال وصاحب المطعم ينظرون إلينا بفرح واستغراب، فالسيد النائب معنا، وهذا يعني أن سيادته يختلف عن مسؤولين آخرين، معظمهم لا يهبطون من عليائهم إلى الناس في الشوارع والمطاعم الشعبية.
بعد أن انتهينا، أشدْنا جميعا بالطعام (باقلاء بالدهن)، كان لذيذا حقا، هذا ما قاله النائب، شربنا الشاي الأسود الثقيل، وتركنا المطعم إلى الفندق الذي نزل فيه الضيف، وفي العودة أيضا، استوقف السيد النائب كثيرون، قدموا له شكاوى مختلفة كلّها تتمحور حول الحصول على عمل، في الحقيقة كانت المشاكل معقّدة، واستغربنا من كثرة مشاكل العراقيين وهمومهم، أنا شخصيا فكرت باستحالة حلّ المشاكل التي تعصف بالناس بسبب كثرتها وتعقيدها وعدم وجود بوادر لحلها أو تنظيم خرائط عملية وخطوات واقعية لمعالجتها.
كان النائب يلتقط مع المارة الصور بطلب منهم، وكان يلبي طلبات الجميع، ويحاول الإجابة عن أسئلة الناس، ويعد بحل بعضها، وقد تبادل أرقام الهواتف مع أصحاب الشكاوى، ووعد بالسعي لحلّها، كان المشهد يثير الأسى حقا، فبين أمتار وأمتار يستوقف عدد من الشباب النائب ويطرحون عليه معضلة أو مشكلة، لدرجة أننا شعرنا بأن العراق يغص بالمشاكل من أقصاه إلى أقصاه.
هل يفيد التعاطف مع الناس وخصوصا الشباب المحرومين من فرص العمل، المكبلين بالفراغ القاتل، وهم يعانون من هدر طاقاتهم وشبابهم ومواهبهم، ثم ماذا يمكن أن يفعل نائب برلماني واحد من بين 325 نائبا؟؟، وهل تمكَّن مجلس النواب بكل أعضائه بوضع تشريعات كفيلة بإنقاذ العراقيين، وانتشال شبابهم من المشاكل التي تحيط بهم وتعبث بحياتهم وتزيدهم فقرا وحرمانا رغم الثروات العراقية الهائلة والموارد المليارية؟.
المشهد الأخير في جولتنا هذه، حدث قبل أن يدخل النائب إلى الفندق، كان أحدهم يدفع عربة صغيرة مصنوعة من الخشب، توقّف فجأة عند النائب، سلَّم عليه وقال له: سيادة النائب، هل تعلم بأنني تركت عائلتي في مدينتي الناصرية وجئت إلى هذه المدينة، أدفع هذه العربة، أحمل بها الزوار من كبار السن مقابل أجر قليل، كي أعيل أطفالي وزوجتي. وأضاف الرجل:
سيادة النائب ما كان هذا عهدنا بكم، كنا نظن إنكم سوف تنصفوننا.
فوجئ النائب بكلمات صاحب العربة الخشب، وقال له: يوجد في دوائر الدولة أكثر من 4 ملايين موظف، وليس بالإمكان المزيد.
أجاب صاحب العربة: هذه ليست مشكلتي، أريد أن أعيش أنا وعائلتي، أريد حقوقي.
صمت السيد النائب، قال أحدنا لصاحب العربة: ألا تريد صورة مع النائب؟
قال صاحب العربة: وهل تتوقع أنني أمتلك موبايل، ثم هل الصورة ستعيل أطفالي؟!
اضف تعليق