"الحشد الشعبي" تسمية تم إطلاقها على تشكيلات المتطوعين من ابناء الشعب العراقي، بعد الفتوى الشهيرة التي أطلقتها المرجعية الرشيدة، في أعقاب سيطرة تنظيم داعش الارهابي على عدة مدن في شمال وغرب العراق، متوغلا باتجاه مديني سامراء وديالى، ومن الغرب باتجاه مدينة بابل في جرف الصخر، وقد هدد التنظيم العاصمة العراقية بغداد، وبات على مشارف محافظتيّ بابل وكربلاء المقدسة، عند ذاك وبعد أن بان خطر الاجتياح الارهابي السريع لمدن العراق كبيرا، وتهديده المباشر للعاصمة وللمراقد المقدسة في مدينة سامراء وغيرها، انتفضت جموع الحشد الشعبي من كل الفئات العمرية، ملبية بإيمان تام وإقبال كبير، نداء المرجعية في مواجهة خطر الارهاب القادم من وراء الحدود.
ولا شك أن عقودا وسنوات طويلة مضت، والعراقيون يغوصون في حروب لا حصر لها، شغلتهم عن بناء بلدهم بطريقة تعكس حضارتهم وجذورهم العميقة، حتى بدأت مفردة الإعمار تتردد في المحافل الخارجية والداخلية، بل بين ألسنة الناس صغارهم وكبارهم، وهم يتطلعون الى العيش في بلد آمن ومعمَّر، فالجميع يتحدث عن الإعمار بعد أن تعرضت مدن ومناطق كثيرة من العراق الى التدمير والتخريب، بسبب تلك الحروب والإرهاب.
واليوم يخوض العراقيون معركة شرسة تدور رحاها فوق أرضهم، ضد الإرهاب القادم من دول وأصقاع مختلفة، محتميا بحواضن معروفه، ساعدته على تخريب البلاد، وقد حققت القوات العراقية بمختلف تشكيلاتها، انتصارات كبيرة ومبينة غلى هذا التنظيم الخطير، وكان للحشد الشعبي دوره المتميز في هذا المجال، فقد بدأت المناطق والمدن تلو المدن تتحرر من قبضة داعش، بفعل الضربات الماحقة لقوات الجيش، والشرطة الاتحادية، والعشائر العراقية، فيما كان للحشد الشعبي القدح المعلّى في هذا الجانب، فقد سطّرت تشكيلات وفصائل هذا الحشد الوليد، اروع وأقوى المواقف والصور في ساحات القتال.
كما أثبتت ذلك النتائج القائمة على الارض، إذ بدأت سلسلة الانتصارات بتحرير (آمرلي) ذائعة الصيت، والتي حوصرت شهورا من لدن الدواعش، لكنها لم تسقط بأيديهم، بعد أن قاوم أهلها رجالا ونساء خطر الاجتياح الداعشي بأسلحة بسيطة لكن بقلوب عامرة بالإيمان، ثم تم فك طوق الحصار عنها وتحريرها من خلال معركة شرسة، كان للحشد الشعبي فيها الدور الأساس، تلا ذلك تحرير محافظة ديالى وأقضيتها ونواحيها وقراها بالكامل.
ثم بدأت صفحة تحرير تكريت، التي أبلت فيها التشكيلات العراقية المختلفة بلاء حسنا، ولا شك أن الدور الحاسم في تحرير هذه المدينة من داعش، كان لقوات الحشد الشعبي، الأمر الذي أصبحت هذه التشكيلات محط إعجاب وتقدير الجميع، ولا تزال المدن الاخرى (الموصل، الانبار) التي ترزح تحت وطأة الدنس الداعشي، بانتظار جحافل التحرير التي ستواصل صفحات القتال، مع انها لم تتوقف إلا لإعادة التنظيم ثم الانطلاق مجددا لتحرير المدن والشروع بإعمارها، كما حدث في الأماكن المحررة في تكريت، حيث الحملات الشعبية والحكومية باشرت بتنظيف الطرق، واعادة تشغيل شبكات الماء والصرف الصحي والكهرباء، والمولدات المحلية والمدارس، لكي تعود الحياة الطبيعية الى المدينة.
ولكن جهود الإعمار المادية هذه، لا تشكل نهاية المطاف، ولا تمثل نهاية لمشكلات العراق والعراقيين، فهذا الجهاد الذي تقوم به القوات العراقية بكل أصنافها، بمساندة كبيرة وقوية من تشكيلات الحشد الشعبي، هو بمثابة الجهاد الأصغر لها، إذا ما أردنا أن نقيسه بإعمارٍ من نوع آخر أهم من الاعمار المادي، ألا وهو إعمار النفوس ومكافحة الفساد بكل أشكاله وصوره.
فالحقيقة إن إعمار النفوس في مرحلة ما بعد التحرير، يمثل الجهاد الاكبر بالنسبة للعراقيين، وهو جهاد يتخذ طريقين أو جانبين، الأول هو جهاد ذو صفة فردية، حيث أن الانسان الفرد مطالب بالجهاد الأكبر ضد نفسه وأهوائه، ورغباته الشخصية التي قد تقوده الى مزالق انحراف كثيرة ومتنوعة، فيما لو خسر المعركة في جهاده الاكبر ضد نفسه، لذلك فإن كل فرد عراقي، مهما كانت درجة وحجم مسؤولياته، ينبغي أن ينتصر على نفسه في الجهاد الأكبر، بعد قيامه بدوره في الجهاد الأصغر بمعارك التحرير.
فقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): ان رسول الله (ص) بعث سرية ــ قوة عسكرية ــ فلما رجعوا قال: ( مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر).
ولاشك أن الجهاد الأكبر هو معركة دائمة مساحتها طوال عمر الإنسان، منذ أن يدركه الوعي والى أن تفارقه الحياة، وقد يحصل أن يكسب إنسان المعركة ضد نفسه طيلة حياته ثم يخسرها في اللحظات الأخيرة من عمره!، اذا ما فشل في ضبط نفسه عن ارتكاب الفساد في لحظة ضعف، كذلك يعد الجهاد الاكبر معركة شاملة تستوعب كل جوانب حياة الإنسان، ومختلف شؤونه، وتمتد الى جميع الزوايا والتفاصيل، فكراً وإحساساً، عملاً وقولاً، وإشارة وصمتاً، حيث أن خطر الأهواء والشهوات النفسية يهدد سلامة الإنسان وأفكاره، وصحة مشاعره وأحاسيسه، وصدق أقواله ومواقفه، واستقامة تعامله وعلاقاته.
وعندما يكون الإنسان في منصب حساس، تزداد صعوبة معركته المسماة بالجهاد الأكبر ضد النفس بسبب مغريات المنصب، وإتاحة فرص الفساد له والنفوذ، اكبر بكثير من أصحاب المناصب العادية او الأدنى، لذلك فالجميع يدخلون اليوم في اختبار الجهاد الأكبر، لاسيما القادة والمسؤولين من أصحاب المراكز الحساسة في الدولة العراقية، لأن النصر ضد الارهاب اذا لم يتبعه نصر على الفساد، فلا يمكن أن نقطف ثمار النصر على الارهاب، وهذا يستدعي (حشدا شعبيا) من نوع آخر، مهمته هذه المرة مكافحة ارهاب من نوع آخر لا يختلف عن ارهاب داعش بالنتيجة، إنه ارهاب الفساد بكل اشكاله لاسيما المالي والاداري وصفقات الاختلاس وما شابه، نحن إذن بحاجة قصوى الى (حشد شعبي) ضد الفساد، يجعل العراقيين يلمسون نصرهم على داعش لمس اليد، من خلال إعمار المدن والنفوس في وقت واحد!.
اضف تعليق