هل توجد بالفعل إشكالية تتمخض عنها العلاقة بين الطرفين النخبوييْن، المثقف/السياسي؟، واذا اتفقنا على وجودها، استنادا الى ما يحدث فعلا في الواقع، فضلا عن الأسانيد التاريخية في هذا الخصوص، نتساءل، ما هي أسباب هذه الاشكالية، وما تأثيراتها ومضاعفاتها التي تنعكس على الدولة والمجتمع، باعتبار انها تحدث بين رمزين نخبوييْن يقفان في القمة من تسلسل الهرم المجتمعي، فالمثقف كما هو متفق، يتصدر الشرائح والمكونات الاخرى للمجتمع، من حيث الرؤية وسعة الآفاق وطبيعة التعامل مع الآخر، أما السياسي فهو صانع قرار، أو معارض لصانع القرار، وفي كلا الحالتين، له مكانته المتقدمة في المجتمع، وهي تأتي بطبيعة الحال من خلال تأثير القرارات السياسية على الشعب.
من هذه الأهمية في مكانة الطرفين، السياسي والمثقف، تنبثق خطورة إشكالية العلاقة بينهما، فكما هو معروف، أن بناء المجتمع واعتداله ونهوضه صوب التقدم، يعتمد (في نسبة مهمة منه) على المثقف والسياسي، لهذا فكلما كانت العلاقة بينهما منسجمة متعاونة، كلما انعكست نتائج ذلك على المجتمع بصور مفيدة، ويصح العكس تماما، أي أن الخلاف بين الطرفين ينعكس بصيغ ونتائج مؤذية على الدولة والمجتمع، لذلك أولى الخطوات التي تفرض نفسها علينا، هي الاعتراف بوجود هذه الإشكالية، وهي ليست وليدة اليوم بطبيعة الحال، كما انها لا تنحصر في مجتمع دون سواه، ولكن غالبا ما تكون هذه الاشكالية أشد وضوحا، في المجتمعات والدول المتأخرة، وهذا ما يفسر شدة الصراع بين السياسي والمثقف في مجتمعاتنا.
هذا الاعتراف بالاشكالية أعلاه، يدفعنا نحو البحث في الاسباب التي قادت إليها، فالسؤال يتم طرحه على المعنيين بالصيغة التالية، ما هي الاسباب الجوهرية التي تقف وراء حالات الخلاف المستدامة بين السياسيين والمثقفين في بلداننا (العربية والاسلامية)، ومن بداهة القول أن نؤكد على ان السياسي هو ابن الحاضنة الاجتماعية التي يترعرع وينشط فيها مثلما هو الحال بالنسبة للمثقف، وأمر طبيعي أن تحمل شخصيتاهما نفس محاسن ومساوئ الحاضنة المذكورة، وطالما أن المجتمع يعاني من مشكلات في منظومات القيم والسلوك ونقص في الوعي الثقافي والسياسي، وحتى الديني، فإن هذه النواقص الجوهرية سوف تنعكس على شخصية الفرد والمجتمع، ليصبح الصراع على السلطة (بطرق لا دستورية ولا حضارية) أمرا معتادا، لذلك يقف الفكر السليم والمثقف بالضد من أصحاب السلطة غير الشرعيين (في البلدان العربية يندر أن نجد نظاما سياسيا شرعيا يصل الى السلطة بإرادة الشعب عبر الانتخابات)، لذلك فهذه الانظمة تقوم على القوة الغاشمة، وتضرب القيم والثقافة واعراف المجتمع عرض الحائط، فالسلطة لدى هذه الانظمة تتقدم في الأهمية على كل شيء.
لذلك لا نجد تقاربا بين المثقف والسياسي (صاحب السلطة) إلا ما ندر، ونقصد هنا المثقف الحقيقي حصرا، وليس المثقف الذي ينتمي للثقافة والمثقفين بالاسم فقط، فهناك مثقفون يلهثون وراء مصالحهم المادية مقابل التنازل عن دور المثقف الصحيح، والذي لا يمكن أن يصطف الى جانب السلطة بأي حال من الاحوال، وهكذا يتضح أن الطمع بالسلطة والمحاولات المستميتة للاحتفاظ بها، هي التي تشكل حجر الزاوية في قضية الخلاف المستدام بين السياسي والمثقف، وهي التي تغذي الإشكالية القائمة بينهما على الدوام.
أما التأثيرات التي يمكن ان تنعكس على الدولة والمجتمع، من توتر وتناقض العلاقة بين الاثنين، فإن الشيء الاكثر خطورة في هذا الجانب، عندما يشن قادة السياسة (الحكومة، النظام السياسي) حملة قمع متواصلة ضد المثقفين، فهذا الفعل في حقيقته يشكل بداية النهاية لحرية الفكر والرأي، وهو ايضا يشكل خطوة اولى في طريق سقوط النظام السياسي نفسه، فضلا عن حرمان الدولة والمجتمع من طاقات المثقفين ودورهم الاساس في الارتقاء بالمجتمع بصورة مستمرة ومتصاعدة، وهي خسارة فادحة في حقيقة الامر، لهذا السبب تسعى الحكومات الناجحة الى حفظ مكانة المثقف، ودعم الثقافة، ليس هذا حكرا على الحكومة فقط، بل المجتمع نفسه يسعى على نحو مستمر لكي يقدم دعما كبيرا متواصلا ماديا ومعنويا للمبدعين، من اجل دعمهم وتطويرهم وتحفيزهم على الابداع الافضل.
أما في جانب الحلول التي يمكن أن تقلل من حالات التصادم بين السياسي والمثقف، فهذا يعتمد على ثقافة الحاضنة المجتمعية نفسها، عندما يكون المجتمع واعيا سوف ينتج قائدا سياسيا واعيا يرى في المثقف (يده الثانية) في تطوير البلد، وليس غريما أو نقيضا له، بعيدا عن التأييد المطلق للقائد، بل العمل وفق صيغة تعاونية (سياسية ثقافية) تتفاعل وتتعاضد بما يصب بالنتيجة في صالح الجميع، ويمكن في هذا الصدد اعتماد بعض المقترحات لمعالجة الاشكالية التي وردت في صدر المقال وكما يلي:
- أن يعتمد النظام السياسي في ادارته لشؤون الدولة والشعب، السبل الدستورية الديمقراطية، لكي تأخذ الثقافة دورها المناسب.
- حماية الحريات والحقوق، وفسح المجال امام المثقفين ومنتجي الأفكار للتصويب، بدلا من فرض التبعية والتأييد الأعمى.
- مد جسور الثقة المتبادلة بين (السياسي و المثقف)..
- رفع الحواجز المعنوية العازلة بين (الثقافة والسياسة)، عبر التقارب بين الطرفين.
- فتح آفاق الفرص الواسعة امام الثقافة والمثقفين للنهوض بالمجتمع.
- التخطيط السليم من لدن الحكومة لجعل الثقافة سلعة اقتصادية، بما يعود على المثقف والدولة بالربحية المادية والمعنوية، التي ترفع من شأنه، فيكون عطاؤه الابداعي افضل بكثير.
- تحصين المثقف والثقافة من التجاوزات التي قد تتعرض لها، وذلك وفق تشريعات دقيقة، من بينها حماية الملكية الفكرية وكل ما يتعلق بها.
- وضع الضوابط القانونية والاخلاقية التي تعيد التوازن الى العلاقة بين الساسة والمثقفين، وانهاء رحلة الخلاف الطويلة، قانونيا وسلوكيا.
اضف تعليق