العراقيون يعيشون اليوم عصر الديمقراطية، لكنهم لم ينسوا قطعا ما كانوا يعيشونه طيلة عقود متوالية، في ظل أنظمة دكتاتورية المضمون والفعل وإن اختلفت بالشكل، وكيف ينسى العراقيون من كان يتربص بكلماتهم من العسس، ويتلقّف أقوالهم، وفي ضوئها يمنحهم درجة الولاء أو العكس من ذلك، فتوضع عليهم علامة فارقة، هي علامة (الخونة) المناهضين لدولتهم، ووطنهم، فيذهب بهم العسس بأنواعه إلى السجون، ومنهم من لا يخرج منها حتى آخر العمر، وإذا خرج فمصيرهم القبور بعد الإعدام...
العراقيون يعيشون اليوم عصر الديمقراطية، لكنهم لم ينسوا قطعا ما كانوا يعيشونه طيلة عقود متوالية، في ظل أنظمة دكتاتورية المضمون والفعل وإن اختلفت بالشكل، وكيف ينسى العراقيون من كان يتربص بكلماتهم من العسس، ويتلقّف أقوالهم، وفي ضوئها يمنحهم درجة الولاء أو العكس من ذلك، فتوضع عليهم علامة فارقة، هي علامة (الخونة) المناهضين لدولتهم، ووطنهم، فيذهب بهم العسس بأنواعه إلى السجون، ومنهم من لا يخرج منها حتى آخر العمر، وإذا خرج فمصيرهم القبور بعد الإعدام.
هذا هو القمع بأوضح صورة له، وهذا الذي كان يحدث في ظل العصر الدكتاتوري الذي جربه العراقيون خير تجريب وأدقه وخبروه تماما وعرفوه تمام المعرفة، وما أن قُبرَ عصر القمع حتى تنفس العراقيون الصعداء، واستبشروا بقدوم العصر الديمقراطي، فرُفعَت الأكفَ عن الأفواه، وانطلقت الألسن تقول ما يحلو لها، واندفعت الآراء طليقة كالسيول الجارفة، حتى وصلت درجة الانفلات المعيب، لكن لا أحد من العراقيين شعر بأنه يفعل أو يقول ما هو معيبا من القول أو الرأي، أتعرفون لماذا أيها الديمقراطيون؟؟ لأن العراقيين عاشوا تأريخهم في ظل القمع، وبعد أن بُشِّروا بالعصر الديمقراطي الجديد، أرادوا أن يعوضوا تلك العقود بل القرون المريرة التي قضوها في عذاب القمع.
ولا يريد العراقيون العودة إلى تلك العقود المريرة، على الرغم من أنهم لم يجنوا من العصر الديمقراطي ما كانوا يحلمون به، ومع ذلك من يكتوي بنيران العبودية والرقابة حتى على الأنفاس، يمكنه أن يصبر على أخطاء الديمقراطيين ممن يحكمون العراق اليوم، نعم يمكن للعراقيين أن يتحملوا أخطاءكم في قلة الخدمات، وفي انتشار الفساد، وفي تصاعد نسبة الفقر، وفي تردّي الصحة والتعليم والزراعة والصناعة وتراجعها، ولكن عندما يصل الأمر إلى العودة بهم إلى الدكتاتورية والقمع، هنا يقول العراقيون لا، لن نسمح لأحد أن يعيدنا إلى مربع القمع.
العودة إلى مربع القمع
هذه التوطئة تقودنا إلى تساؤل مفاده، هل هناك مظاهر قمع تحدث في عصرنا الديمقراطي بالعراق؟، الجواب نعم، دون تردد أو مجاملة أو رياء، نعم هناك من السياسيين من يدفع بالأوضاع باتجاه المربع الأول، ولا نريد أن نأتي بشواهد وأحداث بعيدة حدثت في سنوات ماضية، نحن ندعم أقوالنا بما حدث قريبا، إننا نتكلم بوضوح عن المظاهرات التي خرج فيها مواطنون عراقيون يطالبون بتفسير عن الانقطاع شبه الكلّي والمفاجئ للكهرباء، لاسيما أنهم يعيشون شهر رمضان الكريم، شهر الصيام باحتياجه المعروف لطاقة أكثر وأكبر من الكهرباء.
لم يفعل المتظاهرون أكثر من المطالبة بتفسير، إنهم أعلنوا رفضهم لهذا المنطق الغريب، فقبل أيام لا أكثر أي قبل إجراء الانتخابات النيابية بأيام كان التيار الكهربائي في صحة تامة، يتدفق في أفضل ما يكون، ولم تشكُ الشبكة الوطنية كلها من أي نقص في الطاقة، ولكن ما أن انتهى العراقيون من إدلائهم بأصواتهم ودخلنا في شهر الصوم، حتى غابت واضمحلت الكهرباء فجأة، فصار القطع المبرمج يستمر لساعات وساعات، والناس صيام، ودرجات الحرارة تتصاعد، فشكّل الانقطاع المفاجئ صدمة للجميع، وصار السؤال، أي ذهبت الكهرباء في ليلة وضحاها.
ونزل متظاهرون عراقيون إلى الشارع، يتساءلون في هتافاتهم، عن الكهرباء الغائبة، وعن الأسباب التي أدت إلى ذلك، إنهم يعيشون في عصرهم الديمقراطي، وهم يطمحون أن يستثمروا هذا العصر بقوة، وحق الرأي مكفول لهم، وحق التظاهر السلمي مكفول أيضا، هذا هو منطق العصر الديمقراطي، أليس من حق العراقيين أن يشعروا بذلك، ألم تكفِ عقود القمع والتكميم، أم هناك رأي آخر لقادتهم الديمقراطيين، ولكن ماذا حدث بعد ذلك، سؤال يأتي كالناقوس الذي يقرع جرس الإنذار، أو جرس الخطر، لماذا لا يحتمل المسؤولون أسئلة المواطن؟، ولماذا يقمعونه؟؟.
إن العراقيين جربوا جميع أنواع الحكم، الملكي، الانقلابي، الجمهوري، واليوم يجربون النظام البرلماني الديمقراطي، ولك لا يزال هناك بعض المسؤولين، لا يفهمون الفرق بين الديمقراطية والدكتاتورية، ويظنون أن السلطة واحدة في النظامين، لها وجه واحد فقط، هو القمع، لكن الأمر ليس كذلك قطعا، فأبسط شروط النظام الديمقراطي كفالة حرية التظاهر، وحرية الرأي، ولعل هذا الشرط المزدوج يمثل الفارق الأهم بين النظامين الديمقراطي والدكتاتوري.
تقليص الفارق بين منهجين
فهل يريد بعض ساسة اليوم أن يقلصوا هذا الفارق، ويساووا بين النظامين؟، سوف يجيب كثيرون منهم بالنفي، وبعضهم سوف يعترض على مثل هذا السؤال، وينفون تقليص الفرق بين المنهجين نفيا قاطعا، ولكن واقع الحال يقول غير ذلك، فما تعرض له متظاهرون من قمع لا يعطي انطباعا ديمقراطيا بتاتا، ولا يطمئن العراقيين بأنهم يعيشون الحقوق والحريات التي يمنحها الدستور لهم في ظل نظام تعددي لا مركزي، يرفض الاستبداد والقمع بصورة تامة.
نعم لا يقبل العراقيون بالعبث بأمن الناس، أو الاعتداء على ممتلكاتهم، ويرفض المتظاهرون السلميون أي مؤشرات تدل على العنف أو التخريب، ولكن من حق المواطن أن يتساءل لماذا تختفي الكهرباء بهذه الصورة المريبة، وهي تعد من أهم الخدمات الأساسية، وخصوصا في هذا الموسم الساخن، وفي شهر رمضان، هل يستكثر المسؤول أن يفسر السبب بطريقة تقنع الناس، أم ليس لديهم سوى الاعتقال والقمع أسلوبا للتعامل مع المواطنين.
إن هذا الأسلوب مرفوض جملة وتفصيلا، ولا يريد العراقيون العودة بهم إلى أساليب القمع التي لم تعد تتناسب وروح العصر، كما أنهم أخذوا ما يكفي من حصة القمع في ظل الأنظمة الفردية الانقلابية الدكتاتورية، واليوم وهم يعيشون العصر الديمقراطي، ليس من حق أحد سلبهم هذا الحق، ولا يجوز أن يعلو رأس الاستبداد مرة أخرى، وفي نفس الوقت لا يقبل العراقيون أي تجاوز على القانون من جهة المواطن، ويرفضون العنف بكل أشكاله، كما أنهم لا يسمحون بتغيير سلمية المظاهرات إلى أشكال العنف، ولا يجوز لأي مواطن أن يستغل التظاهر لمآرب سياسية أو سواها، ولكن على المسؤول أن يوسع من صدره أكثر فأكثر.
وعلى المسؤول أن يبتعد عن أسلوب القمع، وأن يبادر لإقناع المواطنين بالأسباب التي تقف وراء هذا التدهور المباشر للطاقة الكهربائية، وأن يستوعب غضب الناس، لأن التقصير واضح ولا يحتاج إلى تبرير أو إطلاق الأعذار، والطامة الكبرى، لم نسمع تبريرا أو أعذارا لتهدئة المواطنين، مع أن الأسلوب الصحيح هو مكاشفة المواطن بالأسباب المقنعة، وليس اللجوء إلى استخدام القمع، لأننا لا نريد أن يفقد النظام الديمقراطي أحد أهم الأعمدة التي يرتكز عليها، وهو حماية الحريات، وإلغاء القمع من الجذور، والإثبات القاطع للعراقيين بأنهم يعيشون الديمقراطية منهجا وفعلا، حتى نطمئن بأننا غادرنا الاستبداد والقمع إلى الأبد.
اضف تعليق