تواجه العملية السياسية في العراق، لحظة حرجة، فهي تمر بمخاض عسير إذ تتحمل الطبقة السياسية مسؤولية إخراج البلد من عنق الزجاجة، وإذا ما قيس التاريخ الماضي القصير لهذه العملية وفق مقاييس الأعمار السياسية...
تواجه العملية السياسية في العراق، لحظة حرجة، فهي تمر بمخاض عسير إذ تتحمل الطبقة السياسية مسؤولية إخراج البلد من عنق الزجاجة، وإذا ما قيس التاريخ الماضي القصير لهذه العملية وفق مقاييس الأعمار السياسية، فإنه يؤكّد للجميع أن العراق كان ولا يزال يمرّ بمصاعب جمة، وربما النسبة الأكبر من المشكلات تعد من العيار الثقيل أو المستعصي، لهذا فإن الحكومة القادمة ستكون في وضع لا تُحسَد عليه، وأن الفائزين من المرشحين، سوف يواجهون إرثا معقّدا خلفته لهم الحكومات السابقة، وسوف تكون الحكومة القادمة في شرنقة المشكلات السابقة والحالية والقادمة، فلا يمكنها التنصل من إيجاد وابتكار المعالجات، كما لا يمكنها الانسحاب إلى ما قبل النتائج النيابية.
والآن ونحن نستشرف القادم، ونستكشف محاولات معرفة وتكهّن مرحلة ما بعد الانتخابات، وما ينبغي على الحكومة الجديدة التصدي له والقيام به من إجراءات وخطوات قد تُخرج العراق من عنق الزجاجة، نحاول أن نستبق الزمن ونضع أمام الحكومة الجديدة ما يمكن أن تقوم به، وما سوف يقف كحجر عثرة في طريقها، وفي هذا السياق ثمة تحديات سوف تشرئب بأعناقها وتقف في مواجهة الحكومة وجها لوجه، وفي نفس الوقت هناك محفّزات سوف تقف إلى جانب الحكومة لتسهيل مهامها التي تبدو غاية بالتعقيد والانغلاق.
وسوف نبدأ بالمعرقلات التي قد تطيح بالحكومة وتجعلها كسابقاتها في مدار النجاح والفشل، ونحن هنا نضع المعيقات أولا حتى يمكن للحكومة الجديدة وضع الحلول المناسبة بمساعدة من المحفزات إذا ما استثمرتها جيدا، حتى تسهل عليها خطوة أو خطوات إخراج البلد والشعب من عنق الزجاجة، ومن المعرقلات أو المعيقات ما هو أخطر وأكبر حجما تعقيد، ولنأتِ أولا إلى (عقبة الفساد)، فهي فعلا أخطر ما يواجه الحكومة القادمة بل هي أقوى التحديات التي فيما لو تم التعامل معها بتقليدية سوف تقصم ظهر الحكومة وتدفع بها إلى الاصطفاف مع من سبقها من حكومات.
الفساد أكثر ضررا من الإرهاب
وهذا العائق المعقد (الفساد) يجب على الحكومة القادمة أن تنظر إليه على أنه أخطر من (داعش)، وأقوى تأثيرا من أي وباء آخر، ويجزم محللون أن القضاء على الفساد في العراق سوف يقضي على جميع المشكلات الأخرى المعقدة، أما خطوات الحكومة المقبلة لانجاز هذا الهدف فينبغي أن تكون مبتكرة بعد الإطلاع على الخبرات الدولية التي سبقتنا في هذا المجال، ومن أهمها أن تخضع الرؤوس الكبيرة لقبضة القانون، وأن تتخلى الكتل الكبيرة والأحزاب عمن ينتمي لها بعد أن تثبت إدانته بالفساد، وهذا يتطلب أن يكون هناك رئيسي وزراء قوي جدا، مدعوم بكل السبل والجهات الخارجية والداخلية، لكي يكون قادرا على محاصرة هذه الآفة، وينبغي أن تكون هناك خطوة موازية لهذا الإجراء، تكون معنية بتطوير البنية القيمية للمجتمع ونظرته للفساد وأربابه، فيجب أن يكون الفساد كأي عار يتعلق بالشرف والأخلاق والسمعة حتى لا يقترب منه الكبار والصغار.
وثمة عقبات أخرى معقدة أيضا، لكن يبقى مصدر تعقيدها هو الفساد، مثلا مشكلات الصحة، والتعليم، والتجار، والزراعة، والصناعة وسواها من فروع الاقتصاد، كل هذه نمت وتعملقت وأصبحت مشكلات مستعصية بمساندة الفساد، وفي حال تمكنت الحكومة المقبلة من القضاء على جذور الفساد فإنها سوف تتمكن من معالجة المشكلات الملازمة للفساد والناتجة عنه.
أما بخصوص الكلام عن المحفزات، فإن أول وأهم محفّز للحكومة المقبلة يساعدها على إخراج البلد من عنق الزجاجة، هو مراجعتها بدقة لأسباب فشل الحكومات التي سبقتها، فالفشل غالبا ما يكون مصدرا للنجاح، والرغبة بتحقيق الذات والتميز، وبناء الحاضر والمستقبل لشخص رئيس الوزراء القادم وكتلته وحزبه، ينبغي أن يكون أفضل محفز له كي يدرس أسباب إخفاق الحكومات السابقة، وتحاشي السقوط في الأسباب نفسها، انطلاقا من أن (المؤمن لا يُلدَغ من جحر مرتين)، ومن المحفزات أيضا تعافي أسعار النفط، واقتراب سعر البرميل من سقف الـ 80 دولارا ومن المرجح أن يصل إلى الـ 90 دولارا، مع أهمية التخطيط السليم، واعتماد الكفاءات، والتخلي عن مبدأ الولاءات في إسناد المسؤوليات الحساسة للدولة والحكومة، والتي تتطلب الكفاءة أكثر من الولاء بأشواط.
لماذا حملات المقاطعة؟
وهنا يمكننا أن نتخيل ماهيّة النتائج التي تحصدها الحكومة المقبلة فيما لو درست و وعت التحديات التي تواجهها بدقة، خصوصا تلك التي جعلت من الحكومات السابقة محل تندّر واستخفاف الشعب وسخطه، والحقيقة إذا لم تتخلّ الحكومة المقبلة بمساعدة الكتل والأحزاب والشخصيات السياسية عن أسلوبها القديم في التعاطي مع السلطة والقوة والمال، فإن الحكومة القادمة ومن يقف ورائها سوف تكون في وضع لا يحمَد عقباه، ولعل بوادر وحملات المقاطعة الحالية للانتخابات ما هي إلا مؤشر واضح الدلالة وكبير الخطورة على حاضر ومستقبل العملية السياسية والعاملون في ميدنها بلا استثناء.
لذلك ثمة فرصة ذهبية للتغيير، يمكن أن تستثمره الحكومة المقبلة بمساعدة من يقف ورائها، ونعني بهم الأحزاب والكتل الكبيرة، فهؤلاء ينبغي أن يكونوا قد تعلموا من الدرس الماضي جيدا واستوعبوه، وعليهم أن يديروا العملية السياسية واجراءات الحكومة وفقا لتلك الدروس، أما في حال تهربّت من مسؤولياتها تحت ضغط المصالح والمنافع والأموال والمناصب والنفوذ ومواصلة الاستهتار بمصالح الشعب والدولة، فإن الأمور القادمة والنتائج التي ينتظرها الجميع لن تسر أحدا مطلقا، وستكون النتيجة كمن يقوم بتهديم بيتهِ فوق رأسه.
لهذا نحن نرى أن الحكومة المقبلة ليس أمامها سوى استثمار التحديات والمحفزات معا على أفضل وجه ممكن، وإبداء التنازلات المتقابلة بين جميع الكتل والأحزاب والساسة المشاركين في العمل السياسي، وخصوصا تلك التي تتعلق بمقاضاة الفاسدين، وإيقاف عجلة الفساد عند حدها، والشروع بمنهج حكومي جديد يختلف كليا عن مناهج الحكومات السابقة التي تعاقبت على الحكم بعد نيسان 2003، وفي حال أمكن استخدام هذا المنهج الحكومي المبتكَر، فإن مهمة إخراج العراق من عنق الزجاجة سوف يكون ممكنا، وفي أضعف الإيمان سوف نتقدم خطوات مهمة في هذا الاتجاه، وتخليص العراق من أوضاعه المتردية، وإنقاذ العملية السياسية من سقوط حتمي يحيق بها.
اضف تعليق