يوم بعد آخر يكتشف العراقيون مدى حاجتهم لنظام سياسي تعددي، يمتلك شرعية السلطة من مصدرها الصحيح (الشعب)، بعد أن ذاق الأمرّين على يد الأنظمة الدكتاتورية، ويحرص العراقيون على ترسيخ مبدأ التداول السلمي للسلطة من خلال توافر المقومات المؤدية إلى هذه المخرجات الديمقراطية الحامية لحقوق الفرد في مجال الحريات والعيش الحر الكريم، ولا شك أن هناك مرتكزات أساسية لا يمكن من دونها، أن تُقام دولة مدنية قوية، فإذا اختفت تلك المرتكزات لأي سبب كان، ستختفي الدولة الدستورية المعافاة، وستُهدَر حقوق الشعب، أما حضورها فيعني تحقيق بناء الدولة المتمدّنة القادرة على حماية الحريات والتي يتم فيها تداول السلطة سلميا، من خلال صناديق الاقتراع مع حضور الشروط الداعمة الأخرى.
ولو عدنا إلى صفحات التاريخ السياسي المنظور للعراق، فإننا سنكتشف دون أدنى ريب، ما عاناه الشعب من الحكومات التي أهملت التداول السلمي للسلطة، وضربت القوانين الديمقراطية عرض الحائط، ولجأت إلى الانقلابات واستخدام القوة في الاستحواذ على الحكم، بعيدا عن أي دور للشرعية المستمدة من الشعب، فالهدف أولا وأخيرا مما حدث من تغييرات سياسية كبيرة بعد نيسان 2003 هو تأمين مدنية الدولة ودستورية مؤسساتها، والسبب هو سعي العراقيين لبناء دولة قادرة على حماية الحريات.
أي أن الشعب العراقي بنخبهِ المتنوّرة وقواه المدنية، يسعى بقوة إلى مغادرة حقبة أنظمة الانقلابات العسكرية، والدخول في عصر الدولة المدنية القوية، التي يكون بمقدورها يمكنها المحافظة على شروط ديمومتها، ومن أهم تلك الشروط، الحفاظ على الحريات، وبناء الأجهزة الأمنية القادرة على ضبط الأمن كليّا، وتحقيق شرط النزاهة لوأد مفاصل وأدوات وأرباب الفساد كليّا، مع توفير المتطلبات الأخرى التي تتيح للدولة أن ترتكز الى انتظام المؤسسات الدستورية المستقلة، القادرة على إدارة السلطات المختلفة بمعزل عن بعضها، وفقا لما يورده الدستور الدائم المُقَرّ والمستفتى عليه شعبيا.
متى نبني الدولة المدنية؟
ونحن ندرك تمام الإدراك، أن بلوغ هدف الدولة المدنية لن يتحقق في ليلة وضحاها، ولا حتى في سنوات وسنوات، لاسيما عندما نبحث في تواريخ التجارب الديمقراطية الراسخة اليوم، فبعضها تطلّب مئات السنوات لكي يصل إلى ما يريد، وعندما نتحدث عن العملية السياسية في العراق، فإننا لا نخطئ إذا قلنا أنها لم تستطع حتى اللحظة أن تبني الدولة القوية المرتقَبة، كما أن اللاعبين السياسيين، تحصّنوا في لعبة التدويل بدلا من نقل الدولة الى ساحة التداول السلمي للسلطة السياسية، ولهذا بقيت الوجوه نفسها، تمارس لعبة التدويل من اجل الحفاظ على مكاسب مادية تجعلهم في لهو وانشغال تام عن تحقيق مشروع الدولة المدنية، وهذا ما تم كشفه في حياتنا السياسية التي تمخضت عن مشكلات صعبة جعلت من تحقيق هدف الدولة الحامية للحقوق أمرا في غاية الصعوبة.
ولا شك أن هنالك الكثير من الأسانيد الواقعية المأخوذة من التجريب الفعلي، تؤكد الرأي الذي يؤشر بعض الأسباب منع بناء الدولة المستقرة، وأهمها فشل السياسيين في بلورة فعل سياسي موّحد يبني الدولة العراقية المتطورة والمستقرة، أما الاحتماء خلف التبريرات والحجج والذرائع المختلفة، فإنها في واقع الحال، لم تعد مقبولة بعدما يُقارب من عقد ونصف من السنوات على بدء العملية السياسة، فلم تعد الظروف ولا الاتجاه العام يقبل تبريرات التراجع والتلكؤ.
لذلك لابد من حلول جديدة ودماء ووجوه جديدة أيضا قادرة على إيصال الشعب إلى ما يرومه، وهكذا أصبحت الوجوه اللاعبة في الميدان السياسي على دراية وخبرة في كيفية ضمان حضورها الدائم في المشهد السياسي، لضمان مكاسبها المادية أولا، بغض النظر عمَا سيُلحق بالشعب من إهمال وظلم نتيجة لانهماك الجميع بحماية مصالحه الفردية او الفئوية او الحزبية، أما مصالح الشعب والشروع الدقيق في بناء مرتكزات الدولة المدنية، فهو أمر غير مرغوب به أصلا، لأنه يقوّض التدويل الذي تمارسه الكتل والأحزاب والوجوه الحالية، حيث تحافظ على حضورها في المشهد السياسي دون أن تقدم للعراقيين ما يؤشر ويؤكد الاقتراب من تكوين الدولة الحامية للحريات وفق المنهج السياسي التعددي.
الفرصة سانحة للسياسيين للتصحيح
فالعراقيون اليوم يطلبون الدولة المدنية والتداول السلمي للسلطة وحرية الرأي العام وجميع الحريات، وهذا يمكن أن يتحقق لو أن الطبقة السياسية جددت دماءها وتمسكت بهذا الهدف بصورة فعلية ومخلصة، لكن المشكلة تتعاظم عندما لا يعي اللاعبون السياسيون هذا الهدف، لذلك لا تزال عملية التداول الصحيح للسلطة تواجه عقبات التدويل والانشغال التام بالمكاسب، كما نلاحظ ذلك في حالات الثراء الكبير التي أُسبِغَتْ على معظم الداخلين في الميدان السياسي، فيما يعاني الشعب من نواقص كثيرة قد يصعب إحصاءها، نتيجة لعدم التخطيط السليم والحازم لبناء مرتكزات الدولة المدنية، لهذا ارتفعت الأصوات المنادية بتجديد القيادات والبرامج ليس من الشعب فحسب، بل حتى من داخل الكتل والأحزاب السياسية ذاتها.
إذاً مع بداية الإعداد للدورة النيابية الجديدة للانتخابات، بات الجميع على معرفة بما يحتاجه العراق والعراقيون، خصوصا ما يتعلق باعتماد الأطر الديمقراطية لتداول السلطة، وتثبيت هذا المبدأ بصورة كلية، مع اعتماد حالة التجديد في الرؤى السياسية والبرامج والقيادات، وإبداء الحرص الكبير على إنجاح هذه الفرصة، من خلال معرفة ماهية الأخطاء الكبيرة للطبقة السياسية ومعالجتها، وعدم السماح بتكرار الأخطاء تحت أي مبرر كان، والشروع الفوري بتصحيح البرامج السياسية، وإطلاق حملات لتثقيف أعضاء الأحزاب على الحرص الوطني والسعي التام على تغليب الهدف والمكسب العام على الخاص والجمعي على الفردي.
في حالة حدوث مثل هذا التصحيح السياسي والفكري والسلوكي الواسع للعاملين في الحق السياسي، فإن انتخابات الدورة النيابية الجديدة ستكون فرصة فعلية للتصحيح، خصوصا إذا حرصت الكتل والأحزاب وقادتها على ترسيخ مبدأ التداول السلمي، والمبادئ الأخرى للدولة المدنية.
فما هو مطلوب الآن أن يتنبّه جميع السياسيين الى المنحدر الخطير، ولابد من تحويل التدويل الى تداول سلمي، وجعل الشعب وحقوقه واحتياجاته أهدافا ذات أولوية في ظل دولة مؤسسات مدنية يحكمها القانون والعدالة وتكافؤ الفرص، ولا تزال الفرصة متاحة أمام الجميع لاسيما قادة الكتل السياسية من اجل التصحيح السليم، حتى لا تضيع فرصة بناء الدولة التي عوّل عليها العراقيون وانتظروها جيلا بعد جيل، ولعل الفرصة الآن سانحة أكثر من أي وقت مضى، في هذه الدورة الانتخابية إذا وعى العاملون في السياسة الكتل والأحزاب والشخصيات المستقلة، بأن ترسيخ المبادئ الدستورية في ظل نظام تعددي هي وحدها ما ينقذ العراقيين ويعوضهم عما لحق بهم من خراب ودمار.
اضف تعليق