q

ترافق كل دورة انتخابية نيابية، مشكلات كثيرة، وبعضها من العيار الثقيل، وذلك بسبب النفوذ الإقليمي الذي يهمن بنسبة عالية على الكتل والأحزاب السياسية المنخرطة في العمل السياسي، وإذا أردنا أن نقيس نسبة تبعية العاملين في السياسة إلى دول أخرى إقليمية وبعضها خارج الشرق الأوسط كالولايات المتحدة، فإننا سنجد هذه النسبة لها القدح المعلّى، وقد تقترب من درجة 90%، في حين يبقى هامش الوطنية متدنيا وضعيفا لذلك يبقى غير مؤثر سواء في نتيجة الانتخابات، أو في البرامج السياسية، أو في جعل القرار العراقي وطنيا مستقلا.

ولو أننا حاولنا البحث عن أسباب تكالب الإرادات الإقليمية والدولية لصنع نفوذها المؤثر في العراق، فإننا ستعر على أسباب تاريخية واقتصادية وسواها، فهناك مزايا يتمتع بها العراق، تجعله محط أنظار القوى الكبرى وحساباتها، خاصة انها تخطط وتعمل على مدار الساعة، لتحمي مصالحها القومية في شتى المجالات، من هذه المزايا، موقع العراق الذي يتوسط منطقة ساخنة ومهمة في العالم، بل تعد من أهم مصادر الطاقة عالميا، ناهيك عن الموقع الجيوبوليتيكي الهام للعراق، وإسهامه في تحقيق التوازن الدولي بين القوى المتصارعة، لحماية مصالحها، فحتى لو قيّض لنا إلغاء أطماع الدول المحيطة بالعراق، وأمريكا، فسوف يبقى موقع العراق الجغرافي محفزا ودافعا لهذه الدول كي تضاعف من نفوذها في هذا البلد.

لذلك في الدورة الانتخابية القادمة، لابد أن يكون القرار عراقيا مستقلا، خصوصا بعد تدهور السيطرة على الموارد المالية للبلاد، لذا في ظل هذه المزايا وتكالب الدول الكبرى والإقليمية على العراق، لابد أن تتمتع قيادته السياسية برؤية وطنية أصيلة ودقيقة، قادرة على تحقيق التوازن بين عموم القوى، لكي تبقي العراق في منأى من التمحور مع قوة ما ضد قوة أخرى، فالمطلوب أن يبقى العراق مستقلا في سياسته، مع احتفاظه بأهميته وعلاقاته الإستراتيجية مع الدول الأخرى، ولكن ينبغي إلغاء التبعية السياسية أو الاقتصادية والعمل بصورة جادة من قبل الطبقة السياسية وصناع القرار، على صيانة القرار الوطني في السياسة والاقتصاد والمجالات الأخرى.

رؤية المراقب السياسي المستقل

ولكن يقول المراقبون للوضع العراقي، أن الكتل والأحزاب لا تستطيع اتخاذ قرارات حاسمة نحو القرار المستقل، لأنها تعتمد في وجودها وقوتها السياسية على الدعم الإقليمي والدولي، ذلك مع الإقرار بصعوبة الوضع العراقي الراهن، إلا أن الرؤية الوطنية المتوازنة ليست عصية على التحقيق، وليست مستحيلة، خاصة اذا توافر لدى قيادته، الإيمان الوطني وقوة الشخصية التي تتمكن من فرض احترامها ورؤيتها الوطنية المستقلة على الآخرين، مع الإبقاء على توازن المصالح قائما، وقد يرى آخرون أن هذا الأمر لا يتعلق بشخصية سياسية عراقية دون غيرها، إنما الأمر يتعلق بسياسة عامة للدولة، وهو رأي نتفق معه تماما، ولكن حضور الشخصية القيادية وتأثيرها ورؤيتها، له أبلغ الأثر في توجيه الرؤية السياسية الوطنية، وجعلها فاعلة وقادرة على توطيد مكانة البلد وحماية مصالحه، من خلال تقوية القرار الوطني المستقل الذي يمكن الوصول إليه بعيدا عن نفوذ الآخرين وتدخلاتهم المباشرة، فليس هناك أكثر حرصا من الشعور الوطني في هذا الجانب.

وإذا كانت هنالك آراء ترى استحالة ذلك، فإننا نجد في بعض النماذج القيادية العربية والعالمية، أدلة قاطعة تثبت بما لا يقبل الشك، التأثير المزدوج للرؤية السياسية المستقلة، مضافا إليها قوة الشخصية القيادية للقائد السياسي ومعاونيه، والتي تسهم بدورها في فرض المصلحة الوطنية، وتقدّمها على غيرها من المصالح الدولية أو الإقليمية، ليس بالمعنى العنصري الضيق الذي يتجاوز مصالح الآخرين، بل بمنطق القائد السياسي الحريص على وطنه وشعبه أولا وقبل أي شيء آخر، فإذا تحقق ذلك وتم اعتماد السياسة الوطنية المستقلة، فلا يصعب شيء بعد ذلك خصوصا في السياسة والقرار الاقتصادي أيضا.

والآن ثمة تساؤل يطرح نفسه بقوة علينا أن نفهمه، ومن ثم نبحث عن الإجابات الصحيحة له، تُرى أين هو موقع القائد السياسي العراقي مما يحدث على الأرض، هل هو مع شعبه ووطنه، وهل يمتلك الرؤية السياسية الوطنية المستقلة، القادرة على وضع حد لسيل الأطماع والمصالح الدولية، والإقليمية التي تهاجم العراق من كل حدب وصوب؟، حتى وصف كثيرون هذا البلد بـ (الكعكة) التي يتقاسمها الأغراب فيما بينهم، إلا أهلها، وهل فعلا هذا هو واقع حال العراق في ظل حالة التشرذم التي يعانيها؟ بالطبع المرجو من الطبقة السياسية ومن الكتل والأحزاب العاملة في هذا الميدان أن تجيب بوضوح عن هذه التساؤلات خصوصا أننا أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من الانتخابات النيابية الجديدة.

طراوة التجربة لساسة العراق

واستنادا إلى الظروف الإقليمية التي تحيط بالعراق، وحتى التداعيات الدولية، وتكالب هذه القوى على السيطرة وتقوية النفوذ في العراق، فإن الإجابة عن التساؤلات في أعلاه، تؤكد أن العراق يعاني من هشاشة واضحة في إدارة أموره السياسية وحتى الاقتصادية، خاصة أن تجربة قادته السياسيين لا تزال طرية، مقابل تمرس كبير للدول الكبرى والإقليمية على كيفية قضم مصالحها، من لحم ودم الشعب العراقي، ممثلا بخيراته وثرواته المادية والمعنوية، التي أصبحت محل نهب وسلب من لدن هذه القوى المختلفة، وهو نهب لا نظير له في التاريخ العراقي المنظور او القديم، تدعم هذا الواقع المؤلم ظروف سياسية تبدو قاهرة، بل كأنها غير قابلة للمعالجة، بسبب ضغط الصراعات الدولية والإقليمية التي فُرضت على العراقيين، وهم الآن يخوضونها بالنيابة عن المتحاربين الكبار والصغار معا، فالصراعات بالنيابة باتت أساليب مفهومة حتى لأبسط العراقيين، لذلك إذا أراد السياسيون من صناع القرار كسب ثقة الجمهور العراقي فعليهم تمكين الحس الوطني وتغليبه على سواه.

ربما توجد مخططات خفية تسعى لإبقاء العراق تحت نفوذ الدول الإقليمية، إلا أن الأمر المحسوم في هذا المجال واضح ومعروف، فإن أراد الساسة العراقيين ضمان مستقبلهم السياسي عليهم صيانة القرار الوطني، وسماع رأي الشعب في هذا المجال، علما أن هذا الواقع الذي يتوزع على جانبين، أحدهما خفي، والآخر واضح وضوح الشمس، يتطلب تعاملا سياسيا وطنيا حاسما، من لدن قادة سياسيين مؤمنين بالشعب والوطن، ينطلقون في تعاملهم القوي مع الصعوبات الكبيرة التي يتعرض لها العراق، من قاعدتهم القوية التي يجب أن ترتكز على الشعب أولا، بمعنى اذا كان القائد السياسي مقنعا للشعب كله وحليفا له، فإنه قادر على فرض الرؤية السياسية الوطنية على الاخرين، والتعامل وفقا لها، مع الإقرار بأن المشهد السياسي العالمي قد لا يتيح للعراق أن يتعامل بحزم مع الحسابات الدولية والإقليمية، خصوصا أن الانتخابات النيابية في هذه الدورة الجديدة ينبغي أن تكون مختلفة عن سابقاتها، ويجب أن تتمخض عن نتائج ذات منحى جديد أو مختلف ينحو نحو تقوية القرار الوطني وتغليبه بقوة على سواه من قرارات المد الإقليمي وحتى الدولي.

اضف تعليق