مع بداية القرن التاسع عشر بدأت بيارق الاستعمار تلوح في أفق العالم الإسلامي.
ذلك العالم الذي كان ينظر إليه الاستعمار نظرة عداء وحقد - وهي نظرة قديمة ترجع أصولها إلى الحروب الصليبية - قبل أن ينظر إليه كمغنم لنهب ثرواته.
لكن محاولات الاحتلال واجهت صعوبات بالغة، لتمسك المسلمين بدينهم الذي يحثّهم على الجهاد وعلى عدم قبول سلطة الكفار كما قال الله تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) (النساء: 141) رغم ما كان يكتنف المسلمين من ضعف في العلم والوسائل.
فاستعمل الاستعمار مختلف الطرق لإخضاع البلاد الإسلامية.
وكانت أهم حربة تمكّن عبرها من قهر المسلمين هو السلاح النفسي، يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي: «إن القضية عندنا منوطة أولاً بتخلصنا مما يستغله الاستعمار في أنفسنا من استعداد لخدمته، من حيث نشعر أولا نشعر، ومادام له سلطة خفية على توجيه الطاقة الاجتماعية عندنا، وتبديدها وتشتيتها على أيدينا، فلا رجاء في استقلال، ولا أمل في حرية، مهما كانت الأوضاع السياسية، وقد قال أحد المصلحين: اخرجوا المستعمر من أنفسكم يخرج من أرضكم. إن الاستعمار لا يتصرف في طاقتنا الاجتماعية إلاّ لأنه درس أوضاعنا النفسية دراسة عميقة وأدرك منها موطن الضعف فسخرنا لما يريد، كصواريخ موجهة، يصيب بها من يـــشاء، فنحن لا نـــتصور إلى أي حـــــد يحتال لكي يـــــجعل منا أبواقاً يتحدث فيها وأقلاماً يكتب بها»(1).
ومن أوائل الأمور التي عملها:
أ- تأسيس مدارس تبشيرية، لتربية جيل يحملون الفكر الغربي، وبما أن المسلمين -خلافاً لصريح القرآن- لم يكونوا يكترثون بالعلم، فإن هؤلاء الدارسين تمكنوا من ملء فراغ كبير في مجالات الطب والهندسة والمصانع و... وبرزوا وكأنهم الطبقة الراقية في المجتمع فكانوا موضع احترام المجتمع وتقديره.
وكثير من هؤلاء -وحسب تربيتهم- صاروا يلهجون بفضائل الغرب، وأن التخلف الذي أصاب مجتمعنا ما هو إلاّ للالتزام بالإسلام وأحكامه!!
ب- تربية جيل من المؤلفين في مختلف المجالات يروجون بطريقة أو بأخرى، بشكل مباشر أو غير مباشر، للفكر الغربي.
وبما أن الحاجة ماسة للكتب، ولم يتنبه المدافعون عن الإسلام لأهميته -إلاّ متأخراً- فإن تلك الكتب غزت العالم الإسلامي ودخلت أكثر البيوت، وأثرت في طريقة فكر الكثيرين.
ج- السيطرة على التعليم، والتعليم العالي وجعله على المنهج الغربي -في الغالب-، حتى في غير المدارس التبشيرية.
ففي حين أن المدارس والمكاتب السابقة -قبل الغزو الاستعماري- كانت تبدأ بتعليم القرآن والسنة وأحكام الإسلام والسيرة وغيرها إضافة إلى العلوم الأخرى، فإن المناهج الحديثة في التعليم خلت عن كل ذلك، وحتى حين الاضطرار -ترضية للرأي العام- جعلت دروساً هامشية لا يهتم بها.
فصارت الأجيال تنمو بعيدة عن الشرع القويم قريبة من الفكر العلماني والإلحادي.
فحدثت ازدواجية في نفوس كثير من الناس، من جهة ما يتعلمونه في المدارس، وما يسمعونه ويرونه في المجتمع.
فكان الأمر بداية لنشوء الحركات الإلحادية والأفكار العلمانية فارتمى كثير من هؤلاء في أحضان الغرب وتـــنكـروا للإسلام وللمسلمين وحاولوا جاهدين محاربة كل ما يمت إلى الدين بصلة.
لكن سرعان ما نبذ المجتمع الإسلامي ــ لقوة جذور الإسلام ــ تلك الأفكار والمبادئ وبدأ بصحوة عامة للرجوع إلى الإسلام، وبعدما علم بكذب المستعمرين وهشاشة طرحهم.
لكن آثار تلك المبادئ الهدامة -إضافة إلى القوة الاقتصادية والعسكرية والإعلامية للغرب- جعلت الكثيرين يحاولون التطبيق بين الفكر الغربي والإسلام، مع ما بينهما من بون شاسع واختلاف جوهري فحاولوا:
1- تأويل الآيات التي لا تنطبق مع الحضارة الغربية.
مثلاً قالوا إنّ الدين منفصل عن السياسة ، ولم تكن حكومة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مرتبطة بالدين وإنما كانت حالة اضطرارية لنشر الإسلام وقد انتهى الاضطرار.
2- ردّ وتكذيب الروايات بحجة أنها لا تنطبق مع العقل و...
مع أنه لا يصح تكذيب أية رواية حتى لو كانت ضعيفة السند، لأن ضعف السند ليس معناه كذب الرواية، إذ لعلّ الكلام صدر عن الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام) لكنه لم يصل إلينا إلاّ عن هذا الطريق.
والصحيح أن يرد علم تلك الروايات إلى أهله، ولعلّ عقل الإنسان كان قاصراً عن فهم ما ذكرته الرواية.
والتفصيل موكول إلى محلّه.
3- تسفيه ثقافة المجتمع إذا خالفت ثقافة الغرب فيحاولون تقليدهم في المأكل والمشرب والملبس والمسكن وحتى في الفكر.
ولعل من الغريب أن نجد أن البعض يسعى جاهداً لأجل أن يظهر نفسه المنفتح المقبول عند الخصوم فيتنازل عن بعض راءه وأعماله وربما يتراجع عن بعض أحكامه وعقائده الصحيحة الحقة ترضية لهم مع أنه أمر ربما يعد من المستحيلات فإن الخصم لا يرضى منك أن تتراجع خطوة واحدة تتراجع كل مبدأك ومذهبك، قال تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) ، وعلى هذا فومهما تراجع البعض أو حاول أن يستميل خصوم الإسلام بآراء وخطوات إيجابية للاحتواء أو التفاهم معهم من أجل مصالح يتصورها أهم فإن هذا لا مما لا يساعده عليه شرع فضلاً عن فراغه من أي ضمانة بالوصول إلى المكاسب، فإن خصوم الإسلام على الرغم من ضعف ما يحملونه من فكر تجاه الإنسان والكون والحياة فضلاً عن التناقضات الكبيرة التي وقعوا فيها في الفكر والتطبيق لم يقبلوا بالاعتراف بأحقية الإسلام وصدق مبادئه فضلاً عن التراجع أمام المسلمين وقد أثبتت التجارب التاريخية والمعاصرة ذلك في العدد من المواقع والأبعاد وكيف كان فقد جند الغرب مختلف الوسائل للسيطرة على العقول.
ومن تلك الطرق:
آ- بيان أن سرّ تقدمه يكمن في عاداته وتقاليده -حتى عاداته القبيحة- في حين أن التقدم في مجال ليس دليلاً على صحة كل الأفعال.
فالاهتمام بالعلم وتطبيق شيء من الحرية سبب ظهور القابليات في مجال الصناعة والزراعة و...
وهذا التقدم ليس دليلاً إلاّ على لزوم الاهتمام بالعلم ومنح الحرية لكنه لا دلالة له على صحة التصرفات في المجالات الأخرى.
ب- اتخاذ الاستهزاء وسيلة لتحطيم معنويات الآخرين لكي ينهاروا من داخلهم فيتبعوهم في أفعالهم.
وفي القرآن الكريم آيات متعددة تبين اتخاذ المشركين هذا الأمر سلاحاً قال تعالى: (ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون) (الأنعام: 10).
وقال عزّ من قائل: (وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلاّ هزواً أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون) (الأنبياء: 36).
وقال تعالى: (وما يأتيهم من نبي إلاّ كانوا به يستهزئون) (الزخرف: 7).
وقد بينت الآيات أسباب ذلك نشير إليها باختصار:
1- العلم: قال الله تعالى: (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) (غافر: 83).
نلاحظ أن هؤلاء غرّهم علمهم فظنوا أن كل شيء خلا علمهم باطل ينبغي محاربته، وأسهل طرق المحاربة هي الاستهزاء.
لأنّ الناس ينظرون إليهم وكأنهم قمم -باعتبار ما لهم من العلم- فيأخذون بكلامهم مهما كان من دون تفكير وتمحيص، وحيث أنهم لا يملكون الأدلّة لردّ دعوة الأنبياء (عليهم السلام) فإنهم يتّخذون ثقة الناس بهم جسراً لذلك عبر الاستهزاء.
وهذا ما يلاحظ في الحضارة الغربية.
حيث أن ما عندهم من العلم في بعض أسرار الكون وما تلا ذلك من اختراعات واكتشافات، جعلتهم يشعرون بالفوقية على سائر الأمم وأن كل ما يعتقدون به ويقولونه ويعملون به هو الصحيح.
فجعلوا يسفهون عقائد وأفعال الآخرين متخذين تفوقهم العلمي دليلاً على صحة كل ما يقولون وتخلّف الآخرين -علمياً- دليلاً على بطلان كل ما يقولون.
2- السلطة: قال الله تعالى: (ولقد مكناهم فيما أن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) (الأحقاف: 26).
إن هؤلاء رزقهم الله تعالى السمع والبصر والقلب، لكن حيث أنهم تسنموا السلطة، حالت تلك السلطة دون رؤية الفكر الصحيح، لأن السلطة توجب السكر، فرغم أن السكران يرى ويسمع لكنه لا يفقه شيئاً من ذلك.
فاعتمدوا على تلك السلطة، وكل ما خالف سلطتهم وأضرّ بمصالحهم -وإن كان حقاً- اعتبروه باطلاً.
وحيث أن كلام السلطان تتلقّاه النفوس بالقبول -جهلاً أو طمعاً- فإنه يحاول نقض الحق، وأقرب الطرق إلى ذلك هو الاستهزاء، حيث تتناغم السلطة مع العواطف.
3- المنكرات: قال الله تعالى: (ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون) (الروم: 10).
إذا تعود الإنسان على المنكرات فإن اقتلاعه عنها يكون من الصعوبة بمكان والعكس صحيح أيضاً.
ولذا يأمر الإسلام بتعليم الصبيان الصلاة -رغم عدم وجوبها عليهم- وغير الصلاة من العبادات، ويأمر بتأديبهم لو ارتكبوا المخالفات وجاء عن الإمام الهادي(ع) بأن «ترك العادة كالمعجزة».
وفي المثل «من شب على شيء شاب عليه».
فلو مارس الإنسان المنكرات وتعود عليها، يصعب عليه الاقتلاع منها ويحارب كل ما حال دون ذلك.
وحيث أن الدين يأمر بالفضائل وينهى عن الرذائل ويحل الطيبات ويحرّم الخبائث فإن الذين أساءوا السوء يرونه يقف دون مصالحهم الآنية فيكذبونه ويستهزئون به.
قال تعالى: (ويل لكل أفاك أثيم... وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين) (الجاثية: 9).
وقال تعالى: (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا عليهم يتغامزون) (المطففين: 29-30).
وقال تعالى: (زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا) البقرة: 212.
وقال تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين) (لقمان: 6).
علاج الانهزامية
القرآن الكريم كما يبين أسباب استهزاء الكفار بالمؤمنين، كذلك يبين الطرق للمؤمنين لكي لا يقعوا فريسة الاستهزاء فيفقدوا دينهم ودنياهم ونلخّص بعض ما ذكره القرآن في النقاط التالية:
1- عدم اتخاذهم أولياء:
قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين) (المائدة: 57).
إن اتخاذهم أولياء -سواء بمعنى المسلطين أو أصدقاء- هو بداية السقوط في الهاوية، فإن الناس على دين ملوكهم وكذلك الصديق له تأثير كبير على الإنسان، وحيث أن هؤلاء يستهزئون بالدين يؤثرون على من سيطروا عليه أو صادقوه، فينبغي قطع الصلة من البداية.
2- عدم الحضور في تلك المجالس:
قال الله تعالى: (الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزّة فإن العزة لله جميعاً وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً) (النساء: 139-140).
وليس معنى ذلك غلق الفكر وعدم السماع إلى الأقوال الأخرى لأن لله تعالى يقول: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) ، ولكن تشير الآية أن المجالس إذا خرجت عن الموضوعية العلمية وتحولت إلى مكان للاستهزاء فإن الجلوس فيها مضر غير نافع.
3- مقاومة الاستهزاء وطرح الفكر الصحيح:
قال الله تعالى: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين)
بمعنى أن لا تفتر ولا تضعف عن الأوامر الإلهية ولا تصغ إليهم فإن الله تعالى يكفيك شرّ المستهزئين.
وقال الله تعالى: (ويصنع الفلك وكلّما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون) (هود: 38)، حيث أن نوح (عليه السلام) لم يستسلم لاستهزائهم ولم يبق ساكتاً بل أجابهم بأنا سنستهزئ منكم، فقابل السلاح بسلاح مثله لكن بطريقة عقلانية -وهي الوعد بالأمر-، ولعلّه لكي يطيب من خاطر المؤمنين كي لا يقعوا فريسة لهذا الاستهزاء.
كذلك مناقشة استهزاءهم وكلامهم كما قال نوح(ع) حينما سفهه قومه:
قال الله تعالى: (قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من ربّ العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم) (الأعراف: 60-64).
فدفع الاتهام عن نفسه أولاً ثم بيّن وبكل ثقة مهمته ثانياً وناقش دليلهم على تكذيبه ثالثاً.
ولنختم المقال بكلام عن الصحابي الشهيد عمار بن ياسر (رضوان الله عليه) حيث عبر عن إيمانه بصحة معتقده مهما تكالب عليه الأعداء ومهما كانت قوتهم، حيث قال: (والله لو ضربونا بأسيافهم حتى يبلغونا سعفات هجر لعلمنا إنا على حق وهم على باطل)(2).
اضف تعليق