بناء الأوطان ليس أمرا سهلاً، ولا يمكن أن يتحقق من دون أن تتضافر كل القوى والشرائح المجتمعية، بالإضافة الى الطاقات والخبرات المختلفة، ويقسّم بعض علماء الاجتماع المجتمع الى طبقتين رئيستين، الأولى الطبقة الشعبية، وهي الأوسع كمّاً والأكثر نشاطا في الجانب المادي الحركي، أما الثانية فهي الطبقة النخبوية، وتضم الكفاءات والخبرات المختلفة في المجالات كافة، وينحصر دور هذه الطبقة بالقيادة والتوجيه والإدارة في المجالات كافة.
وما لم تتآزر هاتان الطبقتان، (الفكرية القيادية، والمادية العملية)، لا يمكن أن ينجح شعب ما في البناء، وكما نعرف أن العراق اليوم بحاجة كبرى الى البناء بمختلف مجالاته ومستوياته، ولابد أن تشترك الطبقة النخبوية والشعبية في هذه المهمة، ومن يطالع صفحات التاريخ العراقي بهدوء وتفحّص، فإنه سيصل الى قناعة بأن الشعب العراقي لا يستكين للظلم مهما امتد أمدهُ، إذ سرعان ما يثور هذا الشعب على الفساد والظلم، ويُشعر الحاكم المتسلط وحكومته بالخوف من الزوال والإطاحة، الأمر الذي يدفع هذا الحاكم وحكومته الى مزيد من العنف وسفك الدماء والمطاردة وتضييق الخناق حتى على مصدر الرزق اليومي لعموم الشعب، باستثناء البعض ممن ارتضى لنفسه أن يكون عبداً ذليلا للحاكم ولطموحه المادي السياسي غير المقبول كونه ينمو على حساب مصالح الشعب.
وقد عُرِف عن العراقيين من خلال تاريخهم المدوَّن، بأنهم لا يمكن أن يقبلوا بالحاكم الظالم، لذلك يبقى هذا الشعب كما أثبتت التجارب الكثيرة الموثَّقة، غير مقتنع بالحاكم والحكومة الظالمة، ويظل يتحين الفرص لإزالة النظام من الوجود، ولكن ثمة مشكلة كأداء تتمثل بسرقة جهود الشعب العراقي وانتفاضاته من لدن العسكريين والسياسيين الانتهازيين، فيأتي النظام البديل شبيها للنظام المُطاح به، وهذا ما يجعل جهود الشعب تضيع سدى في معظم الثورات والانتفاضات ليبدأ طريق الكفاح من جديد، بلا كللٍ أو توقّفٍ أو ملل.
ولكن لماذا تضيع جهود العراقيين عندما يسعون لبناء بلدهم، ولماذا تتحول مكاسب انتفاضاتهم وثوراتهم لصالح الساسة الانتهازيين؟، علما أن جميع العراقيين يشتركون في الكفاح، كما في ثورة العشرين مثلا، حيث شارك النخبوي، والشعبي، وشارك المعلم والطبيب والمثقف، كما شارك الفلاح والجندي وعموم الكسبة العراقيين في طرد الاستعمار الانكليزي من البلد، إلا أن النتيجة لم تتكلل بالنجاح لصالح الطبقة الشعبية، ولا النخبوية الوطنية، حيث تسلق العسكريون وبعضهم من الانتهازيين ليستحوذوا على السلطة في سلسلة من الانقلابات الدموية الخارجة على الشرعية.
العراقيون قدموا تضحيات كبيرة
إذاً لم يحظَ العراقيون بالمكاسب التي تحققت لهم، وغالبا ما يفقدونها لأسباب سيأتي الكلام عنها، ولا شك أن هنالك سببا واضحا لضياع جهود العراقيين وتضحياتهم الكبيرة في إزالة الأنظمة المستبدة، وأهم هذه الأسباب هو غياب الرؤية الإستراتيجية للبناء الجديد، أي أن الثوار والمنتفضين لا يضعون الخطط السليمة وبعيدة المدى للبناء بعد أن يسقطوا الحكام والحكومات الدكتاتورية، ولهذا تجد أن الشعب الثائر، الذي لا يقتنع بالحاكم المستبد ولا يخضع له ولا لبطشه، لا يجني ثمار انتفاضاته وثوراته، والسبب كما ذكرنا غياب التخطيط الاستراتيجي للبناء، وعدم وجود التعاون الجاد بين أهم طبقتين موجودتين في الشعب، النخبوية والشعبية، فعدم تعاون هاتين الطبقتين هو السبب الرئيس في سيطرة الانتهازيين على الحكم.
وهذا الفشل في انتهاء السلطة الى غير من يستحقها حدث عدة مرات في التاريخ السياسي العراقي، لذلك على هاتين الطبقتين أن تستفيدا في هذه المرحلة بالذات من تلك الأخطاء، لذا على العراقيين أن يتصدوا بذكاء وقوة ودراية لمستلزمات المرحلة الراهنة ونتائجها المستقبلية، أي أنه مطلوب من العراقيين الآن وضع الخطط البرامج التخطيطية السليمة والتنفيذية الكفيلة باستثمار الراهن السياسي والاقتصادي في البناء الأفضل للبلاد، من هذه الخطوات والبرامج المصيرية ما يلي:
- نتيجة للأخطاء الماضية على العراقيين والمعنيين منهم على وجه الخصوص أن يعملوا بقوة على إشاعة الحريات المدنية دونما عوائق بين عموم الشعب.
- وثمة جانب آخر لا يقل أهمية على الفقرة أعلاه وهي عدم المساس بالحقوق المختلفة لعموم الشعب العراقي وهي معروفة ومحددة على المستوى العالمي.
- ولكي نضمن عدم تسلل الانتهازيين الى مربع السلطة ينبغي إشاعة ثقافة الانتخاب الحر للقيادة او السلطة بما في ذلك عموم المؤسسات والمنظمات والجامعات حتى تصبح ممارسة الانتخابات ثقافة وسلوك شعبي.
- من الأمور المفروغ منها محاربة أوجه الفساد كافة لاسيما الفساد الذي يتعلق بالتجاوز على المال العام بشتى الطرق.
- وإكمالا للخطوة السابقة لابد من تقديم الرؤوس والشخصيات التي تمتد للمال العام للقضاء فورا.
- العمل المبرمج من أجل الانفتاح على الدول المتطورة في ميادين الاقتصاد وذلك لانجاز زيادة واضحة في موار البلاد لاسيما ما يتعلق بتنويع مصادر الموارد وعدم البقاء في خانة الدول ذات الاقتصاد الريعي.
- إحداث نوع من التفاعل والانسجام بين الطبقتين المشار غليهما في صدر هذا المقال، والاعتماد على الكفاءات والخبرات في بناء البلد.
تعرض الشعب العراقي للظلم والحرمان
إن ما تحقق للعراقيين ليس وليد الصدفة، بل جاء بعد أن تعرض هذا الشعب لأصناف الظلم والحرمان والعذاب، لذلك يجب استثمار فرصة التغيير نحو الأفضل فكما تشير جميع المؤشرات أن العراقيين يستعدون بقوة لمغادرة مرحلة التراجع والنكوص عبر القضاء على الإرهاب وكل طرائق الفتن التي باتت قديمة ومملة وبات الشعب العراقي كله يستهجنها، وهو بذلك أصبح أكثر وعيا من قادته السياسيين الذين لا يزلون متمسكين بأوراق احترقت تماما ولم يعد لها أي تأثير على الشعب، كما يحاول السياسيون استخدامها من اجل كسب الناخب العراقي الذي أصبح اليوم أكثر وعيا مما كان عليه في السابق، إذ صار الشعب يتطلع للبناء الجديد ويبحث عمّن يجعله مواكبا لعجلة العالم المسرعة باتجاه التقدم والتطور، ولا خيار أمام العراقيين سوى هذا الطريق وإن كان متعبا ومجهِدا في وقت واحد.
إن قضية بناء الوطن لم تعد بالأمر الهيّن، كما أن هذه مهمة لا يمكن أن تتم إلا بأيدي أبنائه المخلصين، أما الشعب الذي قدم ما يكفي من التضحيات والخسائر، فقد بات شعبا واعيا، وان الجمهور صار يفهم ألاعيب بعض السياسيين التي تقترب من الخداع وتحاول التلاعب بمشاعر البسطاء بأساليب باتت بائسة وهذا تحديدا ما يحتم على السياسيين أن يغادروا المرحلة البائدة، ويتحركوا إلى الأمام بما يتسق مع تطلعات العراقيين وتوجههم الكبير نحو البناء والتقدم والتطور في ظل دولة مدنية متحررة، باتت جميع المؤشرات تدل على إمكانية بنائها استنادا إلى الوعي العراقي المستمد من الوعي التاريخي الذي لم يستطع الحاكم الجائر ولا الحكومات أن يلغيه أو يلوثه، فالحقيقة دائمة تبقى حاضرة في الذاكرة الإنسانية، ولا يمكن أن يصح إلا الصحيح في نهاية المطاف.
والخلاصة بات من المهم والأساس أن تأتلف هاتان الطبقتان، بعيدا عن الفوارق في مستوى الفهم أو السلوك، فالجميع يدرك المستوى العلمي الخبروي للكفاءات، لكن أيضا يدرك أن القرار الحاسم يعود دائما الى الأكثرية الشعبية، فالناخبون هم مصدر السلطة وليس الحاكم كما كان الأمر في العهود السابقة، اليوم من يحكم العراقيين هم أنفسهم، وبإمكانهم إزاحة الفاسدين حتما، بالوعي والإصرار والمثابرة على البناء الذي يتساوق ويواكب التقدم والتطور الحاصل لدى الشعوب والأمم التي تقود العالم في هذا المسار.
اضف تعليق