ان الطريق نحو الحرية طريق طويل لا يتحقق بالأمنيات والكلام أو التغيير الشكلي بل يحتاج الأمر إلى حركة داخلية تنبع من داخل الإنسان الذي يؤمن بذاته ومسئوليته في الحياة أمام نفسه والمجتمع وأمام الله تعالى، ويتسلح بالبصيرة والوعي والتعقل وأدوات تستند على الحوار الهادئ والعمل السلمي والقول اللين.
فمن هذه الخطوات:
أولا: تحريك العقل وتعويده على التفكير بحرية واستقلال والخروج من دائرة الانغلاق اللاشعوري الذي يكبله بقيود الرعب والخوف والقلق، لان النشاط والحركة الواقعية للإنسان تبدأ من الإنسان نفسه، لذلك نرى ان اغلب الناس في الأجواء الاستبدادية يصابون بحالات التبلد الفكري والسياسي بحيث لا يفكر الفرد إلا بقضاء حياته اليومية وينغمس كليا في تفصيلاتها التافهة والهامشية ويتعطل عقله حينئذ كليا.
ان ممارسة الفرد للحرية في عقله باستمرار والتحرر من قيود الفكر المعلبة والأفكار الجاهزة واعطاء الفكر مرونة في الحوار الداخلي والنقد الذاتي وتقبل النقاش بروح التمحيص والفهم سوف تقوده بالنتيجة هذه الأمور نحو نمو مطرد لمعنوياته واحساس داخلي بالاستقلال. فلا يمكن ان يكون للحرية أي معنى إلا إذا كان العقل مدربا على استخدام حريته فبدون ذلك يستحيل ان نتعلم من الحياة وان نستفيد من تجاربنا. ولاشك ان التفكير بالحرية كمطلب إنساني أساسي أول الطريق نحو الحرية.
ثانيا: تغيير منهجية التربية في الأسرة والمجتمع، اذ ان الفرد ينمو وهو يرى القمع والكبت يسيطر عليه منذ صغره في أسرته وفي مجتمعه ومدرسته وفي أي مكان يذهب إليه حتى تتعود روحه ونفسه على الاستعباد والاستبداد وتصبح الحرية عنده لا معنى لها لانه لم يمارسها ولا يفهمها. لابد ان نعلم ابناءنا الحرية منذ صغرهم ونفسح لهم المجال للحوار واستخدام عقولهم دون قيود للتعبير عن آرائهم بحيث يتعلمون معنى كرامة الإنسان وعزته وشهامته ويعرفون قيمة تحقيق الذات والشعور الواعي بالذات.
ثالثا: يبقى الجهل أحد المعضلات الصعبة التي يفقد الإنسان بها حريته، لأنه حينئذ يفقد المعرفة التي ترشده نحو بصيرة متفهمة لحياته ونفسه للتعامل مع الواقع بوعي واستخدام طاقاته ومواهبه بأسلوب سليم، ذلك ان: المعرفة تحرر الفرد لأنها تقضي على الخوف اللاعقلائي وكذلك على النزوات والرغبات غير المنطقية.(1) ولذلك قيل: احرم رجلا من المعرفة تجعله بلا شك عبدا لأولئك الذين كانوا اسعد منه حظا.
رابعا: الحرية حركة وجهد لأنها فعل عقلاني يعتمد على الوعي واكتساب التجارب فهي بالمعنى الدقيق والعميق تحتاج إلى سعي مكثف وجهد مركز لاكتسابها والنمو عبرها، يقول تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) فالاهتداء والوصول إلى الغاية يحتاج إلى جهاد مستمر وحركة تقدمية تستمد نجاحها من السعي والوعي. وفي آية أخرى: (وهديناه النجدين) والنجد هو الطريق المرتفع، والنجدين طريق الخير وطريق الشر وسميا بالنجدين لما في سلوك كل منهما من الجهد والكدح. ويقول الإمام أمير المؤمنين(ع): لاتكونن عبد غيرك وقد جعلك الله سبحانه حرا، فما خيرٌ خيرٍ لا ينال إلا بشر ويسر لا ينال إلا بعسر. فالطريق نحو الخير والحرية لاشك سيواجه فيها الشرور والمصاعب ومادام لا يواجهها فانه سيبقى مستعبدا، فحركة الحرية هي حركة سعي وفعل ونشاط.
خامسا: الإيمان بحرية الآخر قبل حريتي لان الحرية مفهوم شامل لا يتحقق كماله الاجتماعي العام إلا بتحققه العام، فليس من الحرية ان أتنعم بالحرية واستعبد الآخرين أحارب حريتهم واقمع مساحتهم الحرة للتعبير عن رأيهم، أو استبد برأيي واستخدم الإرهاب إذا انتقدني الآخرون. ذلك ان: الحرية كالشعور لا يوجدان بجوهرهما إلا بالنسبة إلى حرية الآخر وشعوره ومن خلالها ولأجلها، وان جوهر الحرية المبدعة هو إبداع الآخر، ان حرية كل إنسان لا تتوافر ولا تتمتع بفرص التحقق إلا بتعايش حريات في مجتمع حريات (يمثل) مجتمعات سياسية مؤلفة من اناس أحرار متحلين بالشعور والحرية.(2)
من كل هذا نصل إلى نتيجة مهمة وهي ان الحرية هي محور تقدم الإنسان في التاريخ وجوهر فاعليته ومعنى إبداعه ورمز تقدمه وقدرته على إنتاج نفسه وصنع كماله وصياغة مستقبله.
ولهذا كانت الحرية في جوهر أصولنا الدينية والعقائدية ومفاهيمنا التشريعية وتراثنا التاريخي الأصيل، لكننا آثرنا ان لا نستفيد من هذه الكنوز النيفسة ونطمر أنفسنا في رمال الاستعباد متدثرين بالاستبداد والجهل والتعصب والعنف على أرصفة التاريخ المظلم.
فالحرية حلم جميل يستغرق أفكارنا ويستحوذ آمالنا لكنه يبقى مجرد حلم خيالي ان يلازمه حركة واعية وفكر ناضج ووعي مدروس وفعل حقيقي.
اضف تعليق