تمثل الحرية العنصر الأول لصنع تاريخ المستقبل، والإنسان الحر يشكل الروح التي تنتج ثمار التقدم والبناء والتطور. ولكن لايمكن لهذا الإنسان ان يبدأ حركته الكمالية المتصاعدة ما لم يبدأ عملية تحرره الداخلي والنفسي ويحس بالحرية إحساسا واقعيا واعيا وشاعرا بها، فالحرية ليست مجرد عملية آلية وقانونية توفر هذه المساحة المنفتحة من الحركة بل هي حركة ذاتية يبدأها الإنسان من داخله بوعي وإدراك وفهم لحقيقتها.
فما فائدة الحرية عندما لا يفهم منها الإنسان إلا أبعادها المادية ولذائذها الشهوانية ولا يحس بأي مسؤولية واعية اتجاه العنصر المسؤول في جوهر الحرية. وما فائدة مساحة الحرية اذا كان داخل الإنسان مكبلا بالرعب والخوف والجهل والاستعباد والاستبداد. فلا يمكن: ان تجد الحرية عدوا اكثر دهاءا وبطشا من إحساس الناس بالجمود أو العجز، فالذين ذاقوا طعم الحرية لايمكن ان يفرطوا فيها اذا تنبهوا للخطر الذي يحيط بهم لكن ضعفهم يتركز في عدم قدرتهم على اختراق القناع الذي يتظاهر به أعداؤها فلقد تعودوا على الطاعة ولم يتعلموا كيف يقرأون دروس الحركة التاريخية.(1)
فعندما يسيطر العجز والانعزال واللامبالاة على حياة الناس تصبح الحرية لا معنى لها وألعوبة بيد أصحاب المصالح ويفقد المجتمع تدريجيا القدرة على النمو والتطور، وهذا الأمر خطير لأنه يؤدي تدريجيا إلى تسلط الاستبداد وإلغاء الحرية. وبعبارة أخرى فان الحرية تسير في طريق الاندثار عندما يموت إحساس الفرد بحريته ووعيه وإدراكه لحقيقة فعله ومسئوليته، فالنشاط الحقيقي للمجتمع يبدأ من عقل الفرد ووعيه.
ان الحرية الواقعية تبدأ من عملية التغيير الذاتي التي تقود لإيجاد وعي شامل وعام بمفاهيمها وأهميتها، فعندما يبدأ الفرد بادراك القوانين التي تؤثر في تشكيل حياته ويفهم أسبابها وقدرته على استثمارها لنموه وتقدمه وسعادته فانه يبدأ الخطوة الأولى لمسيرته السليمة نحو الحرية. أي انه: واع لكونه خاضعا لحوادث تكون نتيجتها قوانين عامة دائمة ومستقلة عن إرادته يلاحظها ويدركها بذكائه، وبفعل من حريته في الاختيار يخلق كذلك حوادث يعرف انه هو نفسه صاحبها ولهذه الحوادث نتائجها وهي تمتزج بنسيج حياته.(2)
لذلك لابد ان تبدأ الحرية من خلال تشكيل الفرد لوعيه وفهمه لمعانيها، لان الحرية عملية تكامل ذاتي يبدأ من تمحيص الإنسان ورؤيته للواقع عبر مرآة عقله وبذلك يتصاعد نموه الفكري والعقلي بأهمية فعله وحريته. اما محاولة: حماية الإنسان عند كل خطوة من تجارب قد تضره فهذا ليس بمستحيل فقط ولكنه خطر ايضا، لان ذلك يجعله يقضي حياته تحت وصاية خوف دائم من العواقب والنتيجة هو تشبعه بذلك الإحساس بالحرمان الدائم الذي هو ألد أعداء الحرية.(3) فالإنسان لا يستطيع ان ينمو تحت ظل تجارب الآخرين بل لابد ان يستوحي تجاربه الخاصة من خلال الاستفادة الذكية من تجارب الآخرين وإلا فان التبعية المطلقة تهدم شخصية الإنسان وتجعله يعيش تحت وصاية إرادة الآخرين ومشيئتهم.
لا حرية في ظل الشهوات
ان الاستعباد الحقيقي لا يأتي من الخارج فقط بل ان الأخطر منه هو الاستعباد الداخلي حين تسيطر على الإنسان أهواءه وشهواته وغرائزه ويكون عبدا ذليلا لها تأخذه أينما شاءت، وهذا الاستعباد الداخلي هو مصدر للشرور الخارجية ووقوع الإنسان في دائرة الاستعباد الخارجي، فالإنسان يفقد حريته عندما يفقد قدرة تسلطه على نفسه. وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) معبرا عن ان الحرية من الذات: لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرا.
ويرى توكفيل: ان النزعة الفردية في المجتمعات الديمقراطية سوف تؤدي في النهاية إلى ابتعاد الناس عن الحياة العامة وانشغالهم بمصالحهم المادية الضيقة مما يمهد الطريق امام الحكم الاستبدادي.(4) ويتساءل مونتسكيو: ان الناس يحبون الحرية ويكرهون القهر والعنف وتتنفر من الطغاة فلماذا يعيش معظم الناس في العالم تحت الاستبداد؟ ويجيب قائلا: ان الشرط الوحيد لقيام الاستبداد هو الشهوات الإنسانية وهذه موجودة في كل مكان.
وقد وردت روايات كثيرة عن اهل البيت عليهم السلام تؤيد هذا المطلب منها ما ورد عن أمير المؤمنين(ع) مثل: الحريص أسير مهانة لا يفك أسره، عبد المطامع مسترق وكل طامع أسير، لا يسترقنك الطمع وقد جعلك الله حرا، لا تكونوا عبيد الأهواء والمطامع، عبد الشهوة أسير لا ينفك أسره، مغلوب الهوى دائم الشقاء مؤبد الرق.
ويمكن فهم كلمة الامام الحسين(ع) في يوم عاشوراء من هذا المنطلق حيث قال مخاطبا معسكر يزيد: ان لم يكن لكم دين وكنتم لا تؤمنون بالمعاد فكونوا أحرارا في دنياكم. فعندما يكون الإنسان أسيرا وعبدا لمصالحه الضيقة يفقد الرؤية الصائبة ولكن عندما يتجرد عن مصالحه وأهواءه وشهواته يتحرك ضميره وتنبعث منه الروح الحرة. فإذا تحررت روح الإنسان من التعصب والشهوة والجهل ورجع إلى فطرته النقية فانه بالتأكيد سوف ينقاد نحو الفضائل والأخلاقيات السامية والإيمان بالدين والمعاد.
ان نقطة الضعف الخطرة عند الناس هي التفكير الدائم بالمعيشة المادية اليومية الضيقة مما يجعلهم في رعب وقلق على مصالحهم وبالتالي يتخلون عن حريتهم بسهولة في سبيل الحفاظ على مصالحهم وامتيازاتهم، ولكن ما لا يرونه في المستقبل البعيد هو ان الاقتصاد بدون الحرية لا يحصل على استقراره وامنه وبالتالي يخسرون الكل لخوفهم على البعض، فالتضحية بالحرية سوف تقودهم إلى حكم استبدادي كثير القيود يؤدي بالنتيجة إلى توقف الإنتاج وتفشي البطالة والفساد. وبذلك فانهم يتغاضون عن هذه الحقيقة المرة وهي: ان الاطمئنان الاقتصادي ليس هو الحرية رغم انه شرط لايمكن ان تكون الحرية فعالة بدونه على ان الملكية وحدها لا تجعل المرء حرا.(5)
ان الحرية الحقيقية هي الحرية الروحية وتصبح مساحة الحرية المادية بدونها لا معنى لها خالية من محتوى الوجود الإنساني، خصوصا عندما: نربط الحرية بعبارات مثل اللذة والمتعة والإشباع مما يجعلها تافهة وهذه العبارات تؤكد نواحي الحياة التي يشترك فيها الإنسان والحيوان، اما تعبير تحقيق الذات فيؤكد جوانب الحياة الإنسانية التي تميز الإنسان عن الحيوان وهي مرتبطة بقدرة الإنسان على التفكير والابتكار، والضمير والوعي المنطقتين المقدستين في العقل والروح.(6)
لذلك تبدأ حركة الإنسان نحو تاريخ المستقبل عندما يسمو بروحه ونفسه لتشكيل جوهر ذاتي يزخر بالاستقلال والروح الحرة والعقل الواعي، فالحضارة لا تصنعها أساليب الحياة المادية والتقنية بل تنتجها روح الإنسان المفعمة بالابتكار والإبداع والرؤية. ولهذا: فان مقدرة الإنسان على ان يكون رائدا للتقدم ومتفهما لماهية الحضارة تتوقف على كونه مفكرا وحرا، وكلما ازداد نشاطه في الكفاح من اجل الوجود ازداد عنده الدافع إلى إصلاح أحواله (المادية والمعيشية) وحينئذ تختلط مثل المصلحة الذاتية مع مثل الحضارة وتفسدها، والحرية المادية ترتبط بالحرية الروحية ارتباطا وثيقا فالحضارة تفترض أناسا أحرارا لان بالأحرار وحدهم تتحقق الحضارة وتصنع.(7)
اضف تعليق