عند البحث عن بؤر التوتر في العالم، سوف يعثر عليها الباحثون متناثرة في ربوع الأرض، ففي كل زاوية من المعمورة هناك بؤرة أو بؤر للتطرف والاحتقان، وفي كل جهة من جهات الأرض الأربع حالة توتر تصل الى مستوى الحرب، وبعضها يضع العالم كله على حافة حرب نووية مدمرة، والشاهد الآني على هذا الكلام، ما يجري بين كوريا الشمالية من جهة، وبين أمريكا وكوريا الجنوبية واليابان من جهة أخرى، وتبرز للمتتبع أمثلة أكثر قربا عن التوتر، كما في موجة الصراعات الدموية فوق الأرض السورية، أو تلك التي تدور في العراق وليبيا واليمن التي بات حاضنة لمرض الكوليرا، حيث تقول آخر الأخبار أن قرابة نصف مليون مواطن يمني مصاب بهذا المرض القاتل.
ماذا يحتاج عالمنا اليوم كي يكون أكثر استقرارا وهدوءا ورحمة، وما هي الأسباب التي أحالت قلب الإنسان الى كتلة من الحجر الجلمود، لا تحس ولا تشعر ولا تقوم إلا بعملها الروتيني الآني ألا وهو ضخ الدم الى باقي أعضاء الجيد، هل اختلفت قلوب الناس حاضرا، وما هو الفارق بين أناس الأمس واليوم، لماذا قلّت الرأفة الى أقصى الحدود، ولماذا باتت مظاهر العنف أمرا عاديا في عيون الجميع حتى الأطفال، لماذا مشاهدنا الواقعية كلها عنف ودماء، وكذلك أحلامنا التي ينبغي أن تكون متفائلة وردية باحثة عن السلام والتسامح، لماذا باتت فضاءاتنا الافتراضية كوسائل التواصل الاجتماعي والأفلام كلها مصدر عنف مستمر؟.
عودة الإنسان الى جذروه
وثمة سؤال أهم، كيف يمكن أن نعود بالإنسان الى فطرته الأولى، تلك الفطرة التي لا وجود للعنف فيها، إذ كانت تقوم على السلام والتعاون والعمل وفق ما تقتضيه طبائع الإنسان القائمة على الخير والسلام، اليوم بات الأمر مختلف تماما، والسبب بالطبع فقدان القيم وعدم تأثيرها الفاعل في بناء المجتمع، وعدم تدخلها في ضبط السلوك الفردي والجمعي على حد سواء، نعم لقد بات إنسان الحاضر كتلة من العنف، بسبب انتشار الفكر المتطرف، وازدياد سيطرة النزعة المادية في العالم خصوصا في الأمم والدول التي باتت تسيطر على ضبط حركة مليارات البشر والتحكم بالموارد والثروات.
إن السبب الرئيس الذي يقف وراء اشتعال بؤر العنف في العالم، يمكن أن يتلخص بوضوح وبساطة، هو فقدان الإنسان المعاصر للقيم، وعندما يفقد الإنسان القيم فإنه يتحول الى وحش، وبالتالي نصبح كأننا نعيش في غابة تغص بها الوحوش، القوي يأكل الضعيف والغني يدمر الفقير، ويسود قانون الغاب في الأرض، وهو ما يحدث في أماكن كثيرة من جغرافية المعمورة كما يحدث ذلك في الشرق الأوسط، وأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وبقاع أخرى بدرجة أقل، ولكن الطابع الأكثر وضوحا هو انتشار العنف ليصبح الطابع الأكثر وضوحا في حركة المشهد العالمي السياسي والاقتصادي ولا نبالغ إن قلنا التجاري أيضا، حيث أعلنت مؤسسة أمريكية مؤخرا عن أن هنا حربا اقتصادية تدور رحاها بين الولايات المتحدة والصين.
فإذا عرفنا السبب بطل العجب، والعالم في الحقيقة يعرف السبب الذي يقف وراء انتشار العنف، وهو باختصار فقدان الإنسان للقيم، حتى أنه لم يعد يؤمن بها، خصوصا الطبقة السياسية التي تقود العالم، والمؤلفة من مجموع الحكومات التي تقود الغرب والشرق والعالم بجهاته الأربع، إن هؤلاء السياسيين هم الذين يتحملون قلة النسبة البشرية التي تؤمن بالقيم وتفكر وتتصرف في ضوئها، لذلك عندما نبحث عن أساس المشكلة التي يعاني منها العالم، فهي مشكلة أخلاقية تربوية فكرية سياسية اقتصادية متداخلة، ذلك أن القائد السياسي الذي يتحكم بإصدار القرار عندما يكون فاقدا للقيم، فإنه لم يعد يفكر كثيرا بتبعات القرار الخاطئ الذي يتخذه، وطالما انه محمّل بعقلية مادية لا تعبأ بإنسانية الإنسان، فهو إذاً مصدر القرارات الخاطئة ويتشابه معه كل من يعمل في حكومات لا تعرف من السياسية سوى مصالحها بغض النظر عمّا تلحقه هذه السياسية من خسائر فادحة بالعالم أجمع.
خطوة التغيير تلوح في الأفق
بعضهم يتساءل عن حلول لجعل الأرض أكثر رصانة واتزانا، ومنهم من يطرح مشاريع لكي يخفف من حالات الاحتقان العالمي، بيد أن الطبقة السياسية العالمية تفتقد للإرادة الجماعية التي يمكنها أن تضبط إيقاع الحركة السياسية بما يجعل منها واعية ملتزمة بالقيم والأخلاق التي تراعي وجود البشرية في هذه المعمورة، مع الأخذ بالنظر حرية الحركة والتنافس الفكري والمادي عالميا، ولكن بما يضمن حضور القيم الإنسانية في الميدان التنافسي العالمي، وعندما تكون القيم الإنسانية موجودة في القرار السياسي العالمي فإن التوتر سوف يضمحل، والاحتقان يتضاءل، وينمو النزوع نحو الخير والتعايش والتعاون والعقلانية.
نحن في الحقيقة فقدنا روح الإنسان الأصيلة، أو أنها باتت نادرة، وخصوصا بين العاملين في الحقل السياسي العالمي، إنهم زمر تقود العالم بلا عدالة، والسبب كما ذكرنا، ضآلة قيم الخير وانتشار قيم الانحدار، نحن إذاً نعيش أزمة فقدان للقيم التي تُسهم في إعادة التوازن للتفاعل السياسي والاقتصادي العالمي، والحل كما بات واضحا أن تعمل الجهات المعنية (الفكرية، الدينية، التربوية، العلمية، الثقافية)، على إطلاق حملات على المستوى العالمي تكافح ضد الحكومات التي تفتقد للقيم في إدارتها لدولها وشعوبها، في هذه الحالة سوف يصبح عالمنا أكثر استقرارا وأمنا وعدالة.
هل تلوح في الأفق خطوة من هذا النوع تعيد الأمور الى نصابها، وهل يسترجع البشر شيئا من رحلته الطويلة المعزّزة بالفكر والسلوك الإنسانيين، هذا ما ينبغي أن يسعى إليه الجميع، علما أن الاعتماد كله سوف يقع على حمَلَة الفكر التنويري والقيم والمبادئ المناصرة للإنسان، هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تضع البشرية على طريق التحرر من عبودية التطرف، وهاجس الخوف من جشع الماديين الذين يتحكمون بالعالم كما يرغبون، إن العيش بسلام لا يمكن أن يتحقق للإنسان ما لم يعد نفسه لكسب قيم الخير والعمل في ضوئها، بالطبع يحتاج تغيير العالم سياسيا وفكريا وأخلاقيا الى جهد عالمي جبار يشترك فيه كل من يعتقد أن عالم اليوم بلا قيم، وأنه بحاجة الى تغيير جذري.
اضف تعليق