عندما تكون الشعوب في مرحلة ما بحاجة الى السلاح للدفاع عن كرامتها واستعادة حقوقها وكرامتها من قوى غاشمة وعدوانية، فإنها في مرحلة لاحقة ستكون بحاجة الى وسائل جديدة لتحقيق نفس الهدف واهداف اخرى، عندما يكون العدو في ثوب جديد يقدم خطاباً مختلفاً. ففي ثورة العشرين حمل العراقيون السلاح بوجه السلاح البريطاني المسلّط على رؤوسهم، فكانت فتوى الجهاد الشهيرة للامام القائد الراحل الشيخ ميرزا محمد تقي الشيرازي، لكن عندما واجهت الامة عدواً جديداً في مراحل لاحقة، يلبس "ثوباً وطنياً" ويحمل شعارات تدغدغ المشاعر الانسانية، ومفردات مثيرة لم يعهدها الناس من قبل مثل؛ "حقوق العامل والفلاح" او "حرية المرأة" و "الطبقة الكادحة" وغيرها، فان الرد لن يكون بقوة السلاح، ولا حتى الاقتصار على قوة الفتوى وتحريك المشاعر الدينية وحسب. وإنما بتفعيل لغة الفكر والمشاعر والعواطف والخطاب الادبي الرفيع في أسمى درجاته.
الانتقال من مرحلة الصدام المباشر الاستعمار واذنابه، الى مرحلة الكفاح بالكلمة والقلم، كان يمثل الانعطافة التاريخية والحضارية الهامة في المسيرة الجهادية للأسرة الشيرازية، وهو ما أشرنا اليه في المقال السابق الذي خصصناه لنبذة من سيرة المرجع الراحل السيد ميرزا مهدي الشيرازي، الذي يعد – بالحقيقة- صاحب الفضل الاول في اطلاق مشروع جهاد الكلمة ضد قوى الضلال والانحراف في الامة وفي العراق تحديداً. ويعد نجله، المفكر الاسلامي الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي، الفرع الكبير من هذه الشجرة الباسقة. ففي ريعان الشباب أدرك مساحة المواجهة الحضارية المحتدمة، وخطورة المرحلة، فـ "حرب الافكار" التي يتحدث البعض عنها اليوم، إنما بدأت من خمسينات القرن الماضي، فقد ظهرت افكار تدّعي انها تمثل الحلول لأزمات ومناهج تنظم حياة الانسان الخارج للتوّ من سطوة المستعمر، ويسعى للبناء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
ولكن؛ السيد حسن الشيرازي، لم يكن بذلك المتفرج على دخول الافكار الغريبة والمشبوهة لتشكّل ثقافة المجتمع وتستغل الفراغ الفكري الموجود. انه كان مثل العشرات من طلبة العلوم الدينية في كربلاء المقدسة وايضاً في المدن المقدسة الاخرى، بيد أنه تميّز بحمله لواء الثورة والتغيير والبناء على اساس الحق والحقيقة، وليس التزييف والتضليل والتغرير. فكان سلاحه القلم، ونفسه الأدب، وخطابه الفكر والثقافة. ولكن؛ أي قلم؟ وأي أدب؟ وأي فكر وثقافة؟
الأدب سلاحاً في حرب الافكار
كانت العرب في الجاهلية تستخدم الشعر، وسيلة للدعم المعنوي في الحروب، كما كان يستخدم ايضاً في المديح والرثاء والهجاء، بيد أنهم ارتقوا بالشعر في مراحل تاريخية لاحقة، عندما حملوا القيم والمبادئ السامية، فتحقق السمو للشعر والأدب بشكل عام. وبما أن الأدب يمثل أحد الاركان الاساس لثقافة أي أمة، فانه كلما كان هذا الادب أقرب الى الهوية الحضارية للأمة، كان أكثر تأثيراً ونفاذاً بل واكثر قيمةً لدى ابناء الامة ولدى ابناء الأمم الاخرى. وبالنتيجة كان أقدر على تحقيق وجوده في ساحة المواجهة.
الى ذلك سعى الشهيد الشيرازي في مشواره الأدبي، عندما حاول بعث الحياة في الأدب العربي من خلال إعادته الى الهوية الدينية، ففي كتابه "العمل الأدبي" يدعو أدباء النهضة الحديثة في الادب، الى التحلّي بـ "البطولة لحفظ طابعها (الادب) الخاص حتى تملك شخصيتها الذاتية، فقد بدأت قبل غزو الاستعمار الفكري بتقليد الصور المتوارثة عن الادب العربي، وانتهت بعد غزو الاستعمار الفكري بتقليد المفاهيم الاوربية. وكان هذا الامر منطقيا وحتمياً في منطق الاحداث السياسية والفكرية التي عاصرت نهاية القرن الماضي وطلائع القرن المعاصر".
وعن السبيل لتحقيق هذا الهدف يدعو الى تحديد فلسفة للأدب، لأن "لا يستطيع الادباء حفظ شخصية الادب العربي وطابعه ان لم يركزوه على قاعدة فلسفية تلم ّ فضوله وانفلاته، وليست هناك فلسفة واقعية للأدب العربي سوى الاسلام. فينبغي ان نستعيد تراثنا الفكري والروحي والايديولوجي الذي انسلخنا منه في نزق الانطلاق مع الركب الاوربي".
إذن؛ فالأدب، بما يملك من اسباب الإثارة والشدّ والتوجيه، وما يتّسم به من رقّة وجاذبية، ان يكون عاملاً ايجابياً و سلاحاً شريفاً -إن صح التعبير- عندما تتحدد للأديب الاهداف الشريفة والنبيلة. ففي نفس هذا الكتاب يزيل الشهيد اكبر حاجز نفسي – ربما نلاحظه حتى اليوم- بين عالم الدين والأدب... فكيف يمكن ان يجمع رجل يرتدي الزيّ الديني، بين العلوم الدينية وما تحمله من ثوابت وتتسم به من قاطعية في الاحكام الشرعية، وبين الادب الذي يتّسم بالتغير والتحول في النظرات الى الحياة والوجود، بتغير المشاعر والعواطف؟
ويتهم الشهيد اصحاب هذا السؤال الاستنكاري بعدم فهم الدين بشكل صحيح، إذ ان "الدين والادب كليهما انطلاق عن جمود الارض، وكليهما طموح الى الكمال وثورة على آلية الحياة.... والادب الذي يستند الى قاعدة الاسلام ليس هو الادب الذي يتحدث عن المواعظ والاخلاق فقط، انما هو الادب الذي ينظر الى الوجود على ضوء الاسلام، وهو الذي يعبر عن الكون والحياة والانسان، من خلال تصور الاسلام للكون والحياة والانسان، فيلتقي فيه الجمال والحق، فالجمال حقيقة الوجود والحق ذروة الجمال".
ولعل خير من يصف الشخصية الأدبية للشهيد، هو الاديب اللبناني الراحل جورج جرداق في تقديمه لكتاب "الادب الموجّه"، حيث يقول: "وقف السيد الشيرازي كتابه هذا على التوجيه الحسن، فعقد فيه فصولاً تحمل هذه العناوين: اكتب عقيدتك، لا تصف الانحلال، لا تصف القبيح، لاتتشائم، لاتقلّد، دع التعقيد، ادرس كثيراً، وعناوين اخرى، ولاشك انك واجد في هذه المقالات أصالة في التفكير وايماناً بجمال الصنيع الادبي".
فارس الميدان بلا منازع
كما اسلفنا؛ فان القليل ممن أدرك خطورة المواجهة الفكرية والحضارية التي شهدها العراق تحديداً في اواسط القرن الماضي، مما كان يقتضي استعداداً كاملاً من كل الجهات، حتى لا يكون الرد عاطفياً وارتجالياً، ربما يأتي بنتائج عكسية، ويدفع بالناس نحو الخطاب الآخر الذي يتّسم بالعمق والشمولية وبآليات منظمة وممنهجة، وهذا ما كنا نلاحظه في عمل التيارات الفكرية آنذاك، عندما توغلت بين شرائح المجتمع، وتمكنت من ايجاد موطئ قدم لها، سواء بين المثقفين او المتعلمين وحتى الكسبة والفلاحين وغيرهم.
من هنا امتشق الشهيد سلاح الحقيقة في مواجهة تلك التيارات التي رفعت شعارات كبيرة وبراقة لكنها لم تصمد امام الحقائق، فتصاغرت امام أعظم تجسيد لها وهو الامام علي بن أبي طالب، عليه السلام، فمن يعرفه، يعرف الطريق نحو العدل والمساواة والحرية والسلام والعيش الكريم. وهذا تحديداً ما فعله الشهيد بخطابه الأدبي الرفيع، أما الآلية والاسلوب فكان رائعاً ومبتكراً، وهو المهرجان الخطابي والشعري بمناسبة ذكرى مولد الامام، عليه السلام، علماً أن الفضل في الابتكار يعود الى الأب الفذّ والمُلهم، المرجع الراحل السيد ميرزا مهدي الشيرازي، فكان ذلك المهرجان البهيج والضخم الذي امتد صداه الى خارج العراق، وساهم في نجاحه الباهر، الاعداد له والتنظيم والادارة، وقد وجهت دعوات الى شخصيات سياسية وفكرية ودينية وادبية، وكانت التجربة الاولى عام 1960، واستمر لعدة سنوات.
في هذه الاحتفالات امتشق الشهيد سلاحه وراح يضرب بقصائده المشحونة بالفكر والعقيدة، جذور التيارات الوافدة ويبين ثغراتها ومساوئها، كما يبين في الوقت نفسه حقائق الدين التي خفيت على الناس، وأن ضالة العراقيين، بل وجميع المسلمين، ليس في الافكار الالحادية والمادية والقومية وغيرها، إنما في القرآن الكريم وفي روح الاسلام وقيمه ومبادئه. ونجاتها على رموز أثبتت جدارتها امام التاريخ والحضارة والانسانية، مثل النبي الأكرم، والامام علي، والأئمة الاطهار، عليهم السلام.
هذه الاطلالة الصاعقة في كل عام، لم تكن كل شيء، إذ أن الشهيد كان يتطلع الى الأفق البعيد، ويسعى لإعداد الارضية الصلبة والكبيرة لتكون منطلقاً للأجيال القادمة تتحمل مسؤولية الدفاع عن الحق والحقيقة، وتأخذ بيد الامة الى حيث مراقي التقدم والرقي. فمن رحم الحوزة العلمية تشكلت "لجنة ادبية" مهمتها تعليم الكتابة الادبية لطلاب العلوم الدينية، وقد ترأس اللجنة بنفسه، ومذ ذاك، انطلقت دورات لتعلم الكتابة الى جانب دروس الحوزة العلمية، ثم مهّد لهذه الاقلام الشابّة والواعدة، مساحة للتطبيق العملي، متمثلة في عدد من المجلات الشهرية، فكانت "الاخلاق والآداب"، و"صوت المبلغين"، و"القرآن يهدي" وغيرها...
والحديث عن الشهيد السيد حسن الشيرازي وأدبه - بالحقيقة- حديث ذو شجون. لكن لابد لكل شيء من خاتمة، على أمل العودة الى إضاءة جديدة على حياة هذا الشهيد الفذّ ودوره الكبير في المسيرة الجهادية للأسرة الشيرازية.
اضف تعليق