مع ازدياد المعلوماتية وتنامي الاحتكاك الثقافي في العالم، تبــرز جدلية مثيرة للتساؤلات والاشكالات، تقود إلى إبراز آراء متضادة في خصوص التعامل مع هذه الظاهرة الجديدة في أشكالها والقديمة في وجودها الإنساني. فتسارع نمو طرق المعلومات السريعة أدى إلى وفورة الاحتكاك البشري والتلاقي الثقافي مما افرز وقائع جديدة في جوهرها، تؤدي إلى اندماج مكثف في كثير من القيم والاخلاقيات والسلوكيات، وهذا استدعى استنفار البعض من أجل إغلاق كل الأبواب أمام ذلك التلاطم الحضاري الفوضوي، إذ إن الانفتاح في ظل هذه الثورة الجامحة لا يعني عند البعض إلا الانجراف في هاوية الانسلاخ عن الهوية والانفلات من القيم وبالتالي الاضمحلال في ثقافات المد الغازية.
في إشكالية الانفتاح والانغلاق يبرز رأيان أساسيان يسيران في اتجاهين متعاكسين، رأي يؤكد على أولوية الانفتاح والانخراط في المسيرة العالمية والتطبع بمفاهيمها الثقافية الحديثة، من أجل البقاء في الركب العالمي، وتحديث الماكنة الاجتماعية لإيجاد ديناميكية متفاعلة مع عالم ينشد التقدم باستمرار، ولو كان ذلك على حساب ضياع الكثير من الأسس والثوابت التي قامت عليها مجتمعاتنا.
ومن خلال تتبعنا لحقيقة هذا الرأي فان هذا الاتجاه يعتمد أساساً على الحركة العملية التي تسير قهراً في طريق التحديث العالمي، دون وجود دراسات فكرية معمقة تتناول الأبعاد المختلفة والنتائج المتمخضة عن سلوك هذا الطريق ودون الاعتماد على فلسفة واعية تجسد المضامين الإدراكية الشعورية في السلوك الاجتماعي والفردي، وبعبارة أخرى فهي تنخرط في المجتمع الحداثوي دون وجود رؤية مسبقة ومتفهمة لهذا الانزلاق الخطير، ويظهر ذلك من خلال التحديث المقلد لمظاهر الحضارة الغربية، والتركيز على الأشكال الاستهلاكية دون محاولة لفهم جوهر التحديث.
وفي الاتجاه الآخر فإن الرأي المقابل يواجه إشكالية أكثر تعقيداً وتناقضاً، عندما يرتد بشكل عنيف اتجاه نفسه ومجتمعه، ويغلق الأبواب على ثقافته، ويرفض تحقيق الانفتاح والتحديث بشكل مطلق، باعتبار أن الانفتاح ليس إلا أسلوباً جديدا تستخدمه القوى الكبرى لفرض سيطرتها الاستعمارية وتكريس مبادئ الاستغلال والتبعية. ولكن هذا الاتجاه يقع في مأزق خطير وهو عدم قدرته على استبعاد الثورة الحداثوية من حياته، فهي تحاصره من جميع الاتجاهات، لذلك تفرض نفسها عليه في مختلف جوانب حياته، فيضطر إلى استخدام أدواتها، فيقع أيضاً في مطباتها، مع بقاء التشدد في دائرة الشعور والرفض، لذلك يقود هذا التناقض الى وجود ثغرات كبيرة في الادراك والوعي والقدرة على استيعاب النتائج المتمخضة، وبالتالي يقود الى حدوث صدمات نفسية وفكرية تعجل بحصول ردات فعل عنيفة تنعكس بشكل مظاهر تشدد عنيف وتعصب ومواقف سلوكية غير صائبة.
إن الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي تعيشه الأمة، أدى في كثير من الأحيان إلى اختناق معظم المحافل الفكرية، وغياب المثقفين الواعين عن الساحة، وهذا بدوره انتج حلقات مفرغة ونفى التوازن الذي تحتاجه الامة والفرد لتجنب الانزلاق من جهة، ولإيجاد القدرة على التكيف المناسب مع التطور والتغير الذي يهب على العالم، واستيعاب الصدمات النفسية التي يمكن أن يخلفها من جهة ثانية؛ لذلك فان افتقاد القدرة على التفكير المتوازن وعدم وجود منابع فكرية تزود الأمة بالأفكار السليمة، أدى إلى فراغ كبير انعكس على شكل انفتاح منفلت وانزلاقي وانغلاق متشدد عنيف.
فمع الانفلات تخسر الأمة ثوابتها وأصالتها، ومع التشدد والانغلاق تتحجر الحركة التطورية وتتخلف عن التكيف العالمي والاتصال الإنساني الضروري لجوهر الإنسان، لذلك لابد من توجه المثقفين والمفكرين لدراسة مفهوم الانفتاح من أجل رسم رؤى واضحة للأمة تستطيع من خلالها ان تتعامل بوعي وفهم مع حركة التغيير والتثقيف المتبادل.
اضف تعليق