عندما نتفحص الوضع الذي يمر به العراق اليوم، سنلاحظ أننا نقف بإزاء حملة أطماع هوجاء مزدوجة إقليمية ودولية، كلها بالنتيجة تنتهي الى هدف واحد، هو أن تحصل هذه الدول على حصتها من خيرات العراق بشتى الأساليب، بالصراع أو الحوار، بحروب الوكالة أو سواها، لذلك اتفقت هذه الدول الطامعة وتلاقت مصالحها على أن تبقي على العراق ضعيفا مفتتا بحكومة ضعيفة، ومؤسسات دولة مخترَقة وخاملة، وشعب مجزّأ بلا إرادة ولا قيادة، حتى يسهل على هذه الدول الإقليمية والدولية أن تأخذ ما تريد بلا حساب أو رادع أو عقاب.
علما أن هناك دولا إقليمية خيراتها وثرواتها تفوق ما يملكه العراق، ولا تعاني ما يعانيه هذا البلد، نعم هنالك مزايا يتمتع بها العراق، تجعله محط أنظار القوى الكبرى وحساباتها، خاصة أنها تخطط وتعمل على مدار الساعة، لتحمي مصالحها القومية في شتى المجالات، من هذه المزايا، موقع العراق الذي يتوسط منطقة ساخنة ومهمة في العالم، بل تعد من أهم مصادر الطاقة عالميا، بالإضافة الى الموقع الجغرافي الذي يتوسط الشرق الأوسط تقريبا، وإسهامه في تحقيق التوازن الدولي بين القوى المتصارعة، ما يعني أن أرض هذا البلد من الممكن أن تتحول الى ساحة لحروب معلنة وأخرى خفية تجري بين إرادات معروفة.
وهكذا نلاحظ أفضليات كثيرة يتوافر عليها العراق اقتصاديا وسياسيا وجغرافيا وحتى ثقافيا، ما يجعل منه هدفا لأطماع مزدوجة، في ظل هذه المزايا الكثيرة والمغرية، لذا مطلوب البحث عن سبل تعامل ذكية ورصينة ومدروسة لاحتواء هذه الأطماع ومصادرها، وهذا يتطلب شروطا كثيرة من أهمها أن تتمتع قيادته السياسية برؤية وطنية أصيلة ودقيقة، قادرة على تحقيق التوازن بين عموم القوى، لكي تبقي العراق في منأى عن التمحور مع قوة ما ضد قوة أخرى، بمعنى مطلوب من العراق أن يبقى مستقلا في سياسته قد الإمكان، مع أهمية احتفاظه بعلاقاته الإستراتيجية مع الدول التي تلتقي معه في المصالح والأهداف.
تقديم الرؤية الوطنية المتوازنة
إن الأوضاع المعقدة والمتداخلة في المنطقة الإقليمية التي يقع فيها العراق، خاصة تداخله مع الأراضي السورية، تجعله في وضع بالغ الصعوبة والتعقيد، خاصة ما يتعلق بالإرهاب، وتوازن القوى، والسعي لحفظ كيان البلاد من المساس بوحدتها، ومع الإقرار بصعوبة الوضع العراقي الراهن، إلا أن الرؤية الوطنية المتوازنة ليست عصية على التحقيق، وليست مستحيلة، خاصة اذا توافر لدى قيادته، الإيمان الحقيقي بقدراتها حيث تمكنها من فرض احترامها ورؤيتها الوطنية المستقلة على الآخرين، مع الإبقاء على حالة توازن المصالح قائمة، وقد يرى آخرون أن هذا الأمر من الصعب أن تحققه الطبقة السياسية الراهنة بسبب تفككها وتخلف رؤيتها وهشاشة بنيتها ومشاريعها، وهو توقع في مكانه طبعا، لكن الأمر يتعلق أيضا بالسياسة العامة للدولة العراقية، وهو رأي يطرحه خبراء سياسيون محايدون، ولذلك لابد أن يكون هنالك مشروع سياسي عراقي عميق متميز ومقنع، لكي يكون له أبلغ الأثر في توجيه الرؤية السياسية الوطنية، ويجعل منها فاعلة وقادرة على توطيد مكانة البلد في المجتمع الدولي كله، وفي المنطقة الإقليمية التي ينبغي أن يثبت فيها العراق بأنه دولة قوية موحدة بنظام سياسي تعددي دستوري متطور.
ولكن حتى تكون الدولة قوية لابد أن تتصدى لمهمة القيادة، كفاءات سياسية مهمة، ولنا في بعض النماذج القيادية العالمية، أدلة قاطعة تثبت بما لا يقبل الشك، ذلك التأثير المزدوج للرؤية السياسية المستقلة، مضافا إليها كفاءة وتميز الشخصية القيادية للقائد السياسي ومعاونيه، والتي تسهم بدورها في تعزيز الرؤية الوطنية، وتقدّمها على غيرها من المصالح الدولية أو الإقليمية، ليس بالمعنى العنصري الضيق الذي يتجاوز مصالح الآخرين، بل بمنطق النظام السياسي الحريص على تقديم النموذج القيادي المتطور، في ظل أوضاع شائكة تستدعي أن يتم التعامل معها بذكاء وحنكة وحكمة لا حدود لها.
اعتراف السياسيين العراقيين بأخطائهم
هنا سوف تبرز لنا عدة تساؤلات من بينها على سبيل المثال، أين هو موقع القائد السياسي العراقي مما يحدث على الأرض، وهل هو حاضر بالفكر والفعل مع شعبه ووطنه، وهل يمتلك الرؤية السياسية الوطنية المستقلة، القادرة على وضع حد لسيول الأطماع والمصالح الدولية، والإقليمية التي تهاجم العراق من كل حدب وصوب؟، حتى وصف كثيرون هذا البلد بـ (الكعكة) التي تقاسهما الأغراب فيما بينهم، إلا أهلها، وهل فعلا هذا هو واقع حال العراق في ظل حالة التشرذم التي يعانيها؟، قد يكون هذا التوصيف له حصة من الواقع الراهن، ولكن الصورة ليست كذلك تماما، إذ بالإمكان أن تتحرك النخبة السياسية بقوة وتخطيط وذكاء لكي تحسم الأمر لصالح دولة العراق القوية بين الجميع.
إن أولى الخطوات التي ينبغي اتخاذها هي الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبها السياسيون العراقيون كتلا وأحزابا وشخصيات، على أن تبدأ عملية تصحيح قوية في ما يشبه الإنطلاقة الكبرى، من هنا لابد من القول أن العراق يعاني من هشاشة واضحة في إدارة القضايا السياسية الحساسة، خاصة ان تجربة قادته السياسيين لا تزال طرية، مقابل تمرس كبير للدول الكبرى والإقليمية على كيفية قضم مصالحها، من لحم ودم الشعب العراقي، ممثلا بخيراته وثرواته المادية والمعنوية، التي أصبحت محل نهب وسلب من لدن هذه القوى المختلفة، وهو نهب لا نظير له في التاريخ العراقي المنظور او القديم، تدعم هذا الواقع المؤلم ظروف سياسية تبدو قاهرة، بل كأنها غير قابلة للمعالجة، بسبب ضغط الصراعات الدولية والإقليمية التي فُرضت على العراقيين، وهم الآن يخوضونها بالنيابة عن المتحاربين الكبار والصغار معا، حتى أن العالم كله وخاصة الدول الكبرى، اعترفت بلسان فصيح، بأن العراق يحارب الإرهاب نيابة عن العالم، وهذا الأمر حقيقة واقعة لا احد يستطيع تجاهلها أو إنكارها.
الأمر الذي ينبغي معه وضع التصورات العميقة لطبيعة المرحلة وأوضاعها المعقدة، من أجل النهوض بمشروع عراقي ذكي عميق محنك، يسعى لإقامة حالة من التوازن مع الجميع، خصوصا المنطقة الإقليمية، على أن يتم التركيز على بناء الداخل، من خلال تنشيط الاقتصاد، وتحريك الطاقات الكامنة للشعب، وخاصة الكفاءات، واستثمار العلاقات الاقتصادية والسياسية مع الدول الكبرى، بذكاء وخبرة، وعدم التورط مجددا في تحالفات إقليمية او سواها لأي سبب كان، حتى يمكن أن تكون النتائج مشجعة على صعيد بناء الدولة ومؤسساتها المستقلة، فعندما يقوى النظام السياسي ويشتد عود الحكومة، يمكننا أن نقول بأن العراق وعى طبيعة المرحلة، وأنه في طريقه الى العالم المتمدن حتما.
اضف تعليق