أعتقد أن من يريد أن يغترف من (الغدير) العذب الصافي دون أن يتكبّد عناء البحث والتنقيب في المنابع الأخرى فإنه سيجد ما يروي ظمأه الفكري والعلمي والعقائدي عند حوض الشيخ عبد الحسين الأميني الذي ربما تتخيّله وأنتَ تجوبُ عوالم موسوعته الساحرة (الغدير) إنه كان واقفاً مع ذلك الجمع الغفير من الصحابة وهو يستمع في تلك الظهيرة الغديرية إلى خطبة النبي (صلى الله عليه وآله) التي علّق فيها وصيته في عنق كل مسلم إلى يوم القيامة: (من كنتُ مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)، فيقومُ الأميني مع جملة من بايع من الصحابة ليبايع أمير المؤمنين (عليه السلام) بيده وقلبه، ولكن بيعة الأميني تختلف عن بقية من بايعه ليس في مضمون وصية النبي (صلى الله عليه وآله) ولكن في امتدادها الزماني والمكاني عبر أربعة عشر قرناً فقد بايعه بهذه الصيغة: (يا أمير المؤمنين: إني أعاهد الله أن أنذر عمري لهذا العيد، وسأكون شاهداً مع الشمس والغدير، وسأنثر من عبق هذه الكلمات نسائم البشرى في أرباض البلاد، وأيقظ من نداها السنابل في صلاة الفجر، وأناجي الغدير بما ترقرق من كوثره على فم الشعراء، وسأجعل منه واحة غنّاء يُستنشق منها رياحين الولاء).
الغدير رسالة
نهلَ الأميني من الغدير، وآثر أن يجعل تلك الصحراء اللاهبة خصبة بماء الولاء وأن يفعمها بأجوائه، وكان أميناً وحريصاً على لمِّ كل ما تناثر من أصدائه، فاكتنفه وتآلف معه وتماهى فيه فانطق به التاريخ والزمان والمكان والأبعاد رغم صعوبة الوسائل ..
فالمخزون التراثي الهائل الذي استقاه من (الغدير) يدل على مدى انصهاره في تجسيد ذلك اليوم، وتفاعله في لمِّ حيثيات أحداثه، ورسم شخوصه حتى كأنَّ الحياة قد دبَّت فيه، واختلجت أمامنا تلك الظهيرة الساطعة قبل أكثر من أربعة عشر قرناً.
لقد ألهمه الغدير منابع الحب فحملها رسالة تعبِّر عن أن الغدير باقٍ ما بقي الليل والنهار، وهذا الشرف لا يتأتى لكل أحد، فكان يتنقّلُ بين القرون انتقال النحلة من زهرة الى أخرى، يجمع منها رحيق الغدير ليصبَّه عسلاً مصفّى في خليته (موسوعة الغدير) فدخل بتأليفه هذا عالم الخلود من أوسع أبوابه لأنه أبقى بعده شعلة وقّادة تنير للأجيال طريق الحق المتمثل بقوله (صلى الله عليه وآله): (من كنت مولاه فهذا علي مولاه).
فالجهود الجبارة التي بذلها المؤلف تدل على علميته الواسعة، وقدرته الأدبية الفذة، ويتجلّى ذلك في المادة التاريخية الضخمة والمتنوّعة والتي بذل قصارى جهده في الحصول عليها حتى أخرج كتابه كنزاً من كنوز المكتبة الإسلامية والعربية.
نصف قرن مع الغدير
أفنى الأميني نصف قرن من عمره جهداً وجهاداً في تأليف (الغدير)، وعن سعيه الحثيث في البحث والتدقيق العلمي ومعاناته في الحصول على المصادر نذكر بعضاً من المواقف التي اعترضت طريقه في رحلته الغديرية، ولكنه كافح وجاهد في تذليل عقباتها ورغم هذا الكفاح المُضني إلا أن القارئ ليشعر من خلال تلك المواقف أن هناك تسديداً إلهياً كان يضيء له طريق رحلته.
يذكر الاميني في بعض هذه المواقف: (إنه وصل يوماً إلى طريق مسدود في أحد أبحاثه عن الغدير لأن الكتاب الذي يوصله إلى مخرج من هذا الطريق كان مفقوداً وبدونه تبقى حلقة مفقودة لابد من إيجادها لإتمام بحثه حتى قيل له: إن الكتاب بحوزة رجل من أهل السنة يسكن منطقة الأعظمية. فقصده الأميني، فدهش ذلك الرجل من هذه الزيارة غير المتوقعة لرجل مثل الأميني)، يقول الشيخ الاميني:
قلت له: (علمت أن في مكتبتك الكتاب الفلاني، وقد جئت من النجف لأطالعه وأعيده إليك)، فدعا الرجل الشيخ الأميني للصعود إلى المكتبة، ويواصل الشيخ الأميني حديثه قائلاً (دخلت المكتبة وشاهدت الغبار على جميع أجزائها والكتب مبعثرة هنا وهناك وكأنها مهجورة ولم يمسها أحد منذ زمن فتركني صاحب المنزل وحدي ونزل، وعند ذلك فتحت حزامي، ووضعت عمامتي وقبائي فيها، وغطيتها من الغبار، وابتدأت بتنظيف الكتب وإزالة الغبار عنها، وكان الجو شديد الحرارة وكنت أتصبب عرقاً، وحيث لا مروحة ولا ماء ولا طعام، وأختلط الغبار بالعرق، وغطى المزيج وجهي وأطرافي وأنا مشغول بمطالعاتي واستنساخي حتى العصر، في تلك اللحظة طُرقت الباب وجاء صاحب الدار والنعاس في عينيه، فاستحى حين رآني في تلك الحالة، ثم تعجّب إني ما زلت هنا كيف وبلا ماء ولا وضوء ولا طعام؟وعندها جيء للشيخ بالماء وبعض الطعام فتوضّأ وصلى وراح يستنسخ ويقرأ وأخذ ما يريد).
ما كان لله ينمو
وهناك حكاية أخرى تدلنا على مدى حرص الشيخ الاميني على استقصاء الحقائق من المصادر والسعي لاستحصال الكتب المعتبرة التي تدعم بحثه عن (الغدير) وخلاصة هذه الحكاية انه بكى يوماً لأنه لم يستطيع العثور على مصدر مهم من مصادر بحثه الذي نذر عمره له فطرق باب أمير المؤمنين (ع) قائلاً له: (إن الكتاب كتابك والغدير لك وأسألك بحقك ومقامك عند الله ان تساعدني في العثور عليه).
ويواصل الاميني حديثه: (بعد أن نمت قليلاً نهضت وإذا بطارق يطرق الباب وهو جارنا الذي كان يعمل بناءً يقول: شيخنا انني اشتريت داراً جديدة أوسع من هذه ونقلت معظم الأثاث، فوجدت هذا الكتاب القديم في زاوية من زوايا البيت، فقالت لي زوجتي: أن هذا الكتاب لا ينفعك فلماذا لا تهديه إلى جارنا الشيخ الأميني؟وعندما قدّم الكتاب إلى الشيخ وإذا به نفس الكتاب الخطي الذي كان الشيخ يبحث عنه منذ شهور)
حوالة الإمام (عليه السلام)
وهناك قصة ثالثة جرت مع الشيخ الاميني في معاناته في العثور على المصادر التي يبحث عنها وهو أنه احتاج إلى كتاب (ربيع الأبرار) للزمخشري وكان هذا الكتاب قبل أن يطبع وينشر خطيّاً ونادراً ولا توجد منه سوى ثلاث نسخ خطية: واحدة منها عند الإمام يحيى في اليمن، والثانية في المكتبة الظاهرية بدمشق، والنسخة الثالثة عند أحد المراجع في النجف الأشرف ولما توفي هذا المرجع ورث المكتبة - بما فيها هذا الكتاب - ولده، فقصد العلامة الاميني بيت هذا العالم وطلب من ولده الكتاب استعارة لمدة ثلاثة أيام فقط، ولكنه امتنع فالتمسه الشيخ يومين، ولكنه امتنع أيضاُ... يوم واحد امتنع كذلك يقول الشيخ الأميني: (قلت له أعرنيه ثلاث ساعات، فرفض فقلت له: إسمح لي أن أطالعه عندك في دارك فأمتنع مرة أخرى وهنا يئست منه تماماً).
ولم تنفع توسّطات المرجعين أبي الحسن الأصفهاني والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في إعارة الكتاب وبعد أن أصاب اليأس شيخنا الأميني من الرجل والكتاب قصد كعادته الحرم المطهّر لأمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يتوسّل بالله في الحصول على ذلك الكتاب فرأى فيما يرى النائم الإمام (عليه السلام) وهو يقول: إن جواب سؤالك عند ولدي الحسين.
فأستيقظ أثر ذلك وكان وقت الفجر وارتدى ملابسه قاصداً حرم سيد الشهداء في كربلاء وبعد إدائه الزيارة جلس في أحد الأواوين فأقبل إليه خطيب كربلاء الشيخ محسن أبو الحَب، وبعد السلام والتحية دعاه أبو الحَب إلى داره القريبة للاستراحة، وبعد استراحة قصيرة قال شيخنا للشيخ أبو الحب: أرني مكتبتك فلما رافقه إلى مكتبته جعل يتجوّل فيها ويتصفّح الكتب وفيما هو كذلك وإذا به يشاهد ضالته المنشودة كتاب (ربيع الأبرار للزمخشري) !!
يقول الشيخ الأميني: ولما مسكته بيدي تأكدت إنه هو لا غيره خنقتني العبرة وأجهشت بالبكاء فجاءني صاحبي مستغرباً ومستفسراً فحدثته عن قصة الكتاب والرؤية وكيف أن الإمام (عليه السلام) حوّلني على ولده الحسين (عليه السلام) الذي قادني إليك وإلى مكتبتك والكتاب. وفيما يسمع الشيخ محسن أبو الحب تلك الحكاية ترقرقت عيناه بالدموع هو الآخر وقال لي: شيخنا الجليل إن هذا الكتاب الخطي يعتبر من النوادر، وإن قاسم محمد الرجب - وهو صاحب أكبر مكتبة في بغداد آنذاك - وهي مكتبة المثنى دفع لي مبلغ ألف دينار لشرائه وطبعه ولكني رفضت ذلك - وكان ذلك المبلغ في حينها يعتبر مبلغاً ضخماً يكفي لشراء دار - بعدها أخرج الشيخ أبو الحب قلمه من جيبه وكتب عليه إهداءه إلى العلامة الأميني قائلاً: هذا جواب حوّالة سيديَّ الإمامين العظيمين علي والحسين (عليهما السلام).
ونكتفي بهذه المواقف التي مر بها الأميني في رحلته الطويلة التي جاب بها البلاد وتحمل المشاق وبذل الأموال في سبيل تحقيق حلمه بتأليف موسوعته الخالدة (الغدير) والتي أوضح فيها الصبح لذي عينين على حقيقة الغدير وسطوعه في التاريخ سطوع الشمس ومن تعامى فهو أعمى بصيرة (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضلُّ سبيلا).
موسوعة الغدير ظاهرة علمية فذة
فقد أفاض في موسوعته دراسة وبحثاً وتحليلاً وبذل في تأليفها جهوداً جبارة تقرب إلى الإعجاز خاصة في ذلك الوقت الذي يتم فيه نسخ الكتب باليد والحصول على المصادر مهمة عسيرة، ولكنه ألمَّ بهذا الموضوع إلماماً تاماً ودعمه من الأدلة والبراهين والشواهد ما يذهل القارئ لكثرتها والتوسّع فيها والتوغّل في تفاصيلها وبما لم يسبقه أحد في ذلك حتى أقترن اسم الأميني بـ (الغدير) فلا يكاد يذكر اسم الغدير إلّا ويذكر الأميني ولا يذكر الأميني إلّا وتذكر هذه الدراسة العلمية الشاملة لحادثة وحديث الغدير، هذا الإنتاج العلمي الهائل والعمل القيم الضخم الذي يعد بحق من الظواهر العلمية الفذة في عالم التأليف.
فـ (الغدير في الكتاب والسنة والأدب) وثيقة تاريخية كبرى مستندة على النصوص القرآنية والأحاديث الشريفة والمصادر التاريخية والأدلة العقلية والنقلية لإثبات حديث الغدير إضافة إلى الشهادات الشعرية التي انطلق الأميني منها على أساس علمي ومسلمات شرعية يقينية في النص الإلهي لعلي بن أبي طالب، وقد جمع في وثيقته هذه إضافة إلى الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة روايات مسندة لـ (110) صحابي، و(360) تابعياً، ومالا يحصى من الرواة والمحدثين والحفاظ والمؤرخين والمصنفين وأرباب السير والفتوح والبلدان، كما وذكر أسماء وسيرة أكثر من مائة شاعر من أعلام الشعر العربي ضمّنوا حديث الغدير في أشعارهم طوال أربعة عشر قرناً في عيون الشعر العربي.
جهود العلماء في نشر الغدير
وإضافة إلى الأميني فلا يُنكر فضل علمائنا الأعلام الآخرين الذين نهلوا من الغدير وألفوا فيه وتناولوه بالدراسة والبحث وفي مقدمتهم السيد الأجل إمام الشيعة السيد عبد الحسين شرف الدين (قدس سره) الذي أوضح في مؤلفاته القيمة (النص والاجتهاد، والمراجعات، والفصول المهمة في تأليف الأمة) حقيقة الغدير وبيّن فيها كل الملابسات التي حاول البعض خلقها بخصوص الغاية الحقيقية منه، ودحض الأقاويل التي حاولت تحريف معنى الغدير حتى استطاع أن يفحم شيخ الأزهر سليم البشري الذي لم يجد وهو أمام هذا الطود الشامخ من أطواد الشيعة سوى الإذعان والاعتراف بقوة حجته وسطوع برهانه، وإضافة إلى هذين العلمين البارزين فقد استوفى بقية العلماء الأعلام حديث الغدير وبينوا وبسطوا في التأليف عنه وأوضحوا الحق لذي عينين ومنهم الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء صاحب (أصل الشيعة وأصولها) والسيد حسن الصدر والسيد محمد الشيرازي وغيرهم الكثير من العلماء الأعلام.
وماذا بعد ؟
والآن بعد أن استوفى علماؤنا الأعلام موضوع الغدير حقه وأفاضوا فيه وبيّنوا غايته وحقيقته ومقاصده ماذا يُمكن أن يُضاف إلى الغدير ؟
وهل بعد ما كتب عنه من المؤلفات طوال عدّة قرون، وتناقلت الأحاديثَ والرواياتِ عنه المصادرُ المعتبرة والتواريخ الصحيحة وأجمعت عليه كتب السير ما يمكن أن نضيفه إليه ؟
هذا السؤال بادرني وأنا أتصفّح بعض الكتب التي أُلّفت بخصوص هذا الموضوع أو خصصت له جانباً منها للشروع بتناول جانب من جوانبه تاريخياً أو أدبياً لما لهذا الموضوع من أهمية كونه توّج مسيرة الإسلام بتنصيب الخليفة الشرعي بعد النبي (صلى الله عليه وآله).
ولكنني أحسستُ وأنا أتنقّل بين صفحات الكتب أن هذا الموضوع قد تناولني هو إلى عالمه الواسع والرحب، وأخذني في سياحة فكرية وعلمية وتاريخية وأدبية، فنسيتُ ما كنت عازماً عليه من الكتابة حوله، وتخيلتُ أنني أتحدّث مع المؤرخين والمؤلفين والكتّاب عن حيثيات الأحداث في ذلك اليوم، والذين لم يتركوا باباً من أبواب هذا الموضوع إلّا طرقوه وسلّطوا الضوء على أحداثه الكثيرة، حتى أنهم بيّنوا موقف كل شخصية حضرت في ذلك اليوم تجاه هذه الحادثة ! فكدتُ أن أترك الكتابة عنه فلا أحب أن تكون كتابتي مرآة لما كُتب لولا أن لفت انتباهي فقرات متفرقة من موسوعة الغدير للشيخ عبد الحسين الأميني جعلتني أعيد النظر في تفكيري فأدركت أنني كنت مخطئاً.
لم يكن الخطأ في سؤالي أنني وجدتُ في موضوع الغدير باباً لم يُطرق أو اكتشاف ما يمكن أن يُضيف شيئاً إليه ـ ولو كان ضئيلاً ـ فقد أولاه علماؤنا الأعلام غاية الأهمية، وتناولوه بالدراسة والبحث، واستوفوا حقه من العناية والاهتمام ولم يتركوا مجالاً للشك فيه، أو ثغرة الطعن به.
سقيفة الغدر لا تزال تحوك المؤامرات
ولكن الخطأ في سؤالي والذي لم أحسب له حساباً هو أن تلك القلوب التي أضمرت الحقد والبغضاء في ذلك اليوم، ثم حاكت المؤامرات والدسائس في الظلام، وزوّرت وأنكرت هذا الحديث قد توارثتها ذلك الحقد الأقلام المأجورة والأبواق الناعقة التي لا زالت تنفث سمها الناقع من جوف الأحقاد الأموية، ولازالت أيادي أحفاد أبي هريرة وسمرة بن جندب وكعب الأحبار تلوّث التاريخ الإسلامي وتدسّ فيه الموضوعات والأكاذيب والأباطيل.
أدركتُ أن الصراع باقٍ بين جبهتي الغدير والسقيفة، بين القلوب التي ابتهجت في ذلك اليوم من السابقين الأولين إلى الإسلام وبين القلوب التي امتلأت غيظاً وحسداً من الذين دخلوا إلى الإسلام كرهاً ومن الطلقاء وأبنائهم.
أليس من العجيب أن تتلاقف هذه الرؤوس العفنة والأذهان المأفونة ملفقات أجدادهم في الفضائل المزيفة من الأحاديث الموضوعة على لسان النبي للخلفاء الثلاثة ومعاوية ويعمدوا إلى الحديث الذي هو جزء من رسالة الإسلام وبه أتم الله دينه فيتناولوه بالتشويه والتزوير والإنكار ؟
أليس من العجيب أن تتصدر دراسة التاريخ الإسلامي عقليات مريضة فاسدة انجرفت وراء تحيّزها المذهبي وساعدها على ذلك (مباركة) السلطات المنحرفة التي اتبعت سياسة (التدجين) لهؤلاء والذين أُطلق على أغلبهم لقب (دكتور) وتصدّوا لطمس الحقائق وتحريف المعالم الإسلامية وتزييف سيرة شخصياته فشوّهوا صورة الإسلام الحقيقي؟
ولم تقف الكارثة التي أصابت تاريخنا وأمتنا عند هذا الحد فقد تفشّى ذلك الداء العضال في جسد الأمة، فسخّرت السلطات المعادية للشيعة وللإسلام والمنضوية تحت لوائه في نفس الوقت كل طاقاتها وإمكانياتها لترويج هذا التحريف والتزييف لأغراض سياسية ومذهبية، وأعدت لكل ذلك عدته من الإعلام الكاذب فانتشرت الفضائيات المأجورة التي عملت بكل جهدها على نشر هذه الترهات والسفاسف ونقلها إلى الناس على أنها حقائق لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها فكان لذلك التحريف والتدليس أثره السلبي الكبير على المجتمع الإسلامي ليس على نطاق محدود, بل إن تأثيراته امتدت إلى رقعة جغرافية كبيرة وتغلغلت في أذهان البسطاء وشكّلت حافزاً عدوانياً على الشيعة وصل إلى القتل والسبي وإباحة الأعراض والممتلكات.
أليس من العجيب أن حديثاً رواه أكثر من مائة صحابي، وأكثر من ثلاثمائة وستين تابعياً، وما لا يحصى من الرواة والمحدثين والمؤرخين والمصنفين وأرباب السير والفتوح والبلدان، ودوّنه المؤلفون والكتاب والدارسون والباحثون، وضمّنه أكثر من مائة شاعر من أعلام الشعر العربي طوال أربعة عشر قرناً في عيون الشعر العربي ثم يأتي من يحرف هذا الحديث تحريفاً كلياً عن وجهته ؟
ولا نغالي إذا قلنا إن سبب كل المآسي التي حلت بالأمة الإسلامية جاءت من جرّاء التحريف في مسألة الخلافة والتي بدأت في السقيفة وامتدت جذورها إلى وضع الأحاديث المزورة من قبل معاوية بهذا الخصوص واستمرت هذه المهزلة في زمن الأمويين والعباسيين وإلى الآن، وترتبت عليها ما لا يحصى من الويلات والمآسي التي حلت بالمسلمين نتيجة المغالطات والإلتباس والنزاع حول حقائق التاريخ.
الغدير جزء لا يتجزأ من الإسلام
هذا ما اخترناه في هذا الموضوع وهو أن الغدير باق ما بقي القرآن الكريم وما بقي قوله تعالى يتلى آناء الليل وأطراف النهار: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً) وستبوء بالفشل والخذلان كل المحاولات الفاشلة التي أرادت أن تحرف أو تخفي هذا الحديث من قبل الذين باعوا ضمائرهم ودينهم وأفرغوا حقدهم الأعمى متناسين أن (الغدير) هو جزء لا يتجزأ من الإسلام وإن الله قد حفظه كما حفظ القرآن فقال تعالى: (أنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).
وسنتناول بعضاً من هذه المحاولات الفاشلة ليطلع القارئ على مبلغ ما وصل إليه هؤلاء من الانحدار والاستخفاف بعقولهم قبل عقول الناس، وننقل هنا هذه (المهزلة) التي تلحق بالمهازل الكثيرة التي ألحقها أحد أحفاد أبي هريرة بتاريخنا الإسلامي ننقلها من موسوعة الغدير، فقد روى الأميني في شعراء القرن الأول أبيات أمير المؤمنين (عليه السلام) والتي أرسلها إلى معاوية وهي:
محمدٌ النبيّ أخي وصنوي *** وحمزةُ سيّد الشهداء عمي
وجعفرٌ الذي يضحي ويمسي *** يطيرُ مع الملائكة ابن أمي
وبنتُ محمدٍ سكني وعرسي *** منوطٌ لحمُها بدمي ولحمي
وسبطا أحمدٍ ولدايَ منها *** فأيّكم له سهمٌ كسهمي
سبقتكمُ إلى الاسلامِ طُرَّاً *** على ما كان من فهمي وعلمي
فأوجبَ لي ولايته عليكم *** رسول الله يومَ (غديرِ خُمِّ)
فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ *** لمن يلقى الإله غداً بظلمي
فلما قرأ معاوية هذا الشعر قال: اخفوا هذا الكتاب لا يقرأه أهل الشام فيميلوا إلى ابن أبي طالب.
وقد روى الأبيات (11) من أعلام الشيعة في أصح المصادر منهم: الكراجكي، والنيسابوري، والطبرسي، وابن شهر آشوب، والمجلسي، كما رواها (26) من علماء السنة في المصادر المعتبرة أبرزهم: البيهقي، وياقوت الحموي، وسبط ابن الجوزي الحنفي، والكنجي الشافعي، وأبو إسحاق الحموي، وأبو الفداء اسماعيل ابن كثير، وابن الصباغ المكي المالكي، وابن حجر العسقلاني، والمتقي الهندي، والحلبي الشافعي، والشبراوي الشافعي شيخ جامع الأزهر، والسيد محمود الآلوسي البغدادي، والقندوزي الحنفي، وأحمد زيني دحلان، والشنقيطي المالكي وغيرهم.
رفاعي يلتزم بوصية معاوية بتحريف الأبيات
بعد أن روت هذه الأبيات اصح المصادر لدى الشيعة والسنة من المتقدمين يأتي أحد من ابتلي بهم التاريخ الإسلامي فيلتزم بوصية معاوية في إخفاء هذه الأبيات ولكنه لا يستطيع إخفائها لتواترها في المصادر فيعمد إلى تحريفها! وتحديداً عندما يصل إلى لفظة (الغدير) فإنه يحذفها من البيت كما في تعليقه على (معجم الأدباء) (ط مصر 1357 هـ ج 14 ص 48) من شعر أمير المؤمنين (عليه السلام) فينقله بهذا اللفظ:
وأوجبَ طاعتي فرضاً عليكم *** رسولُ اللهِ يوم غدا برحمي
وهذا المحرّف هو (دكتور) !!
وهو (الدكتور) أحمد رفاعي ذلك الأستاذ (الفذ) الذي جعل من قوله هذا أضحوكة، فمن المستحيل أن يصدق القارئ أن سيد البلغاء والمتكلمين يجعل من كونه ابن عم النبي وجوباً لطاعته وإلا لكان ادعاها ابن عباس وغيره من أولاد عمومة النبي ثم يرسم لهذا القول هذه الصورة الركيكة في الكلمات الثلاثة الأخيرة من البيت، وكان من الأولى (للدكتور) أن يستعين بشاعر لكي يجعل الألفاظ متناسقة أكثر ولو استعان بشاعر لما وجد الشاعر غير لفظة (غدير خم) لتتناسق مع المعنى وتكمل الصورة.
والعجيب أنه جعل للكتاب فهرس البلدان والبقاع والمياه في 47 صحيفة وأهمل فيها (غدير خم) وقد ذكرت في عدة مواضع من المعجم فهل خفي على هؤلاء (الدكاترة) موضع الغدير في هذا اليوم أم أخفاه التعصب وقد أشار بعضهم إلى الأماكن التي عاشت فيها الأمم البائدة في القرون الغابرة كقوم عاد وثمود ولوط.
مهزلة أخرى لدكتور آخر !!
والأعجب من ذلك إن ممن يعدّهم البعض قادة الفكر الإسلامي والذين من المفروض أن تقع على عاتقهم مهمة توحيد الأمة ورأب الصدع والتقريب بين المسلمين هم أساس الفتنة والنزاع والشقاق وزرع العداء والبغضاء على الشيعة، لنأخذ هذا النموذج من هؤلاء (الدكاترة) والذي سيتفاجأ القارئ كونه أحد هؤلاء (القادة) والذي كانت له يد في إخفاء الحقائق وتحريف التاريخ، ولكن قبلها ليطالع معنا القارئ هذا الحديث الذي أجمعت عليه المصادر الشيعية والسنية:
روى الطبري في تاريخه (ج19ص74) إنه لما نزلت هذه الآية (وأنذر عشيرتك الأقربين) دعا النبي قومه من بني هاشم وكانوا نحو أربعين رجلاً وفيهم أعمامه أبو طالب والحمزة والعباس وأبو لهب وصنع لهم طعاما ثم قال لهم: يا بني عبد المطلب: إني والله ما أعلم شاباً من العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به ، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ فأحجم القوم عنها جميعا، فقال علي: أنا يا رسول الله، أكون وزيرك عليه، فقال له النبي: (أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا)، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: (قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع).
وقد روى هذه الحادثة إضافة إلى الطبري كل المؤرخين بألفاظ مختلفة وبمضمون واحد منهم: الحلبي في السيرة الحلبية (ج1ص460) وابن الأثير في الكامل (ج2ص63) وابن كثير في تفسيره (ج3ص561) والمحب الطبري في الرياض النضرة (ج2 ص234) والإمام أحمد بن حنبل في مسنده (ج1ص111) والحاكم في المستدرك (ج3ص125) والهيثمي في مجمع الزوائد (ج8 ص 253)، والمناوي في كنوز الحقائق (ص42،121) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (ج6 ص 153)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (ج1 ص 63)، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (ج11 ص 112)، والنسائي في تهذيب خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ص 29)، وابن سعد في طبقاته ابن سعد (ج1 ص 124)، وأحمد بن حنبل في فضائل الصحابة (ج2ص651)، كما رواه البغوي، والثعلبي، وابن قتيبة، وغيرهم الكثير من المؤرخين.
فهل بعد إجماع هذه المصادر من قول؟لنقرأ ما ذكره السيد حسن الأمين في دائرة المعارف الإسلامية الشيعية (ج1ص20 وفي الهامش ص39) في معرض حديثه عن هذا الحديث وليتأمل القارئ إلى التحريف والتزوير الذي لحق بتاريخنا الإسلامي ! يقول السيد حسن الأمين:
(نشر الدكتور محمد حسين هيكل كتابه (حياة محمد) أول ما نشره فصولاً متتابعة في جريدة السياسة الإسبوعية, ونشر هذا الحديث كاملاً كما هو, ـ أي كما ذكرناه ـ ولما اعترض عليه معترض, أجاب بأني: لست أنا الذي أقول هذا القول ولكنه التاريخ, ثم ذكر الحديث في الطبعة الأولى من الكتاب, ولكن شوّهه وأفسده في الطبعة الثانية وما جاء بعدها من طبعات, ولما سأل الناس: عرفوا أن إحدى الجهات الحكومية عرضت على الدكتور أن تشتري ألف نسخة من الكتاب تدفع ثمنها سلفاً (خمس مائة جنيه) ولكنها اشترطت عليه أن يشوّه هذا الحديث بلفظ: إن هذا أخي وكذا وكذا!!!! فنزل عند رغبتها ولم يرَ حرجاً في ذلك, وكان إغراء الخمسمائة جنيه فوق مبدأ الدفاع عن التاريخ ثم تتابعت الطبعات بعد ذلك وكلها مشوّهة) !!
ثم يعقب السيد حسن الأمين بقوله مؤكداً هذه الفضيحة والكارثة التي ألمت بتاريخنا بقوله: (وجريدة السياسة الأسبوعية موجودة والطبعة الأولى موجودة والطبعات التالية موجودة)!!!!!
أهذه الأمانة التاريخية والفكرية التي يجب أن تتصف بها يا (دكتور)؟أهذا ما تعلمته من أخلاق الدراسة والبحث وما يجب أن تعلمه للأجيال؟لا إله إلا الله.
إنها كلمة (الوصي) التي تزعجهم والتي كان النبي (صلى الله عليه وآله) هو أول من أطلقها على علي (عليه السلام) والتي أكدها في الغدير فهل يستطيعون محوها؟إنها الحقيقة فهل يستطيعون دفنها؟.
وهل استطاعت قريش قبلهم أن تقضي على النبوة التي أظهرها الله وأعزها وأخزى قريشا ومن معها؟وهل الغدير إلا تكملة للنبوة بنص القرآن الكريم (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً) ؟
وبدورنا نقول لهؤلاء (الدكاترة) وغيرهم، ولكل من ساروا على نهجهم، والمطبلين معهم، والمروجين لترهاتهم، والناعقين في الفضائيات نقول لكل هؤلاء: إنكم لم تسيئوا إلى الشيعة والتشيع بقدر إساءتكم إلى أنفسكم وألقابكم العلمية إن كنتم تستحقونها فعلا , بعد أن نبذتم الحقائق التاريخية وراء ظهوركم وتماديتم في أكاذيبكم وأباطيلكم لتأجيج الفتنة وبذر الصراع بين المسلمين.
وماذا نقمتم من (الغدير)؟ألأنه دعوة صريحة من النبي (صلى الله عليه وآله) وأمام جميع المسلمين إلى تنصيب الخليفة الشرعي من بعده والدعوة إلى مبايعته بيعة تحفظ للإسلام خطه في بناء دولة متماسكة رصينة أساسها العدل والحق وترسم له منهجه القويم وتضمن نجاة الأمة من الإختلاف والتنازع والإنشقاق؟
ألأنه كان الدعوة إلى توحيد المسلمين تحت راية الإسلام الصحيح ونبذ الجاهلية وبيعة القائد الكفؤ لها لمواصلة قيادة الدعوة إلى الإسلام بعد النبي (صلى الله عليه وآله)؟
وهل كان (الغدير) فلتة ـ والعياذ بالله ـ وقى الله المسلمين شرها كما روى الطبري في تاريخه(ج3ص20) عن عمر قوله : (إن بيعة أبي بكر كانت فلتة غير أن الله وقى شرها)؟لكي تنقموا منه؟
اضف تعليق