سرير خشبي مزخرف، ابيض كما قلبه الصغير، بدأت نسمات عجيبة تنسكب من بين نقوش خشباته وتفوح حولي، لها رائحة خاصة كرائحة امي، تحمل نغما خاصا، ضحكات وطعم بكاء عتيق امتزجا في ذاكرتي، من براءة الطفولة، يمر بي اللحظة وميض كالبرق، لحظة باهرة الوضوح تضيء الماضي لم تنطفئ إلا وخلفت ما يخلف النور الباهر في العين بعد انطفائه، رأيت امي تهز ذات السرير، انه ذات المهد، ذاكرتي تعيد صورا من الماضي، واسرح بخيالي وارسم له صورة لا تختلف كثيرا عن اخيه القريب الشبه من والده، ولكن هل سيكون كأخيه أم سيكون مختلفا عمن حوله؟.
أتخيل أن أضعه على السرير ذاته وأهزه، احمله وأضمه الى صدري، لحظات حلمت بها كلما وضعت رأسي على الوسادة، اترك السرير وأركز نظري على القمر وسط هذه الظلمة اللامتناهية، عما قريب سيكتمل القمر، فهذه هي الليلة الثالثة عشرة من شهر رجب، مع اكتمال القمر تكتمل سعادتي، ها هي الليلة القادمة من هذا الشهر ستضع بين يديّ قمري الذي أسميته مرتضى، (احد أسماء الإمام علي ع)، مازلتُ واقفة في مكاني أدعو الله وأتوسل الى صاحب الذكرى أن يسهّل لي ولادتي بشفاعته ومكانته عند الله، وان يبارك لي ولدي.
يمضي الليل متثاقلاً بهدوء وصمت، مازالت الشوارع خالية، واغلب الغرف في المستشفى مغلقة، وحده الفجر فتح باب غرفته الرمادية الشاسعة، كان الفجر بارد النسمات، يوحي بالتفاؤل فهو ليس كأي فجر، كنت أقدّم هويتي وأشرد بذهني للحظات وأعود لأرد على أسئلة الطبيبة، أخيرا ها هم يأذنون لي بالدخول الى صالة العمليات، لم يقدر لي كالأخريات أن ألد ولادة طبيعية، هذا ما قالته الطبيبة، وما كان يشعرني بالارتياح هو أن اختار يوم ولادتي بنفسي، وقد اخترت أن ألد في يوم عظيم المنزلة عند الله، ولهذا اختاره لولادة وليّه علي (ع).
هناك شعور تعرفه الكثير من النساء على باب صالة العمليات، أما أنا فشعوري كان مختلفا، وعلى الرغم من سوء حالتي وصعوبة ولادتي، إلا أنني استمد قوتي من صاحب الذكرى وأمه التي ولدت في جوف الكعبة، وكانت في ضيافة الرحمن، وأكلت من طعام الجنان، واختار لها الله يوم الثالث عشر من رجب ان تضع اشرف مولود على وجه الأرض بعد الرسول محمد (ص) في أقدس مكان (بيته الحرام).
(يُعرَف عن النساء المواليات عندما يشعرن بآلام المخاض يتوسلن بالإمام علي (ع)، وينادين يا علي، مع كل طلقة يشعرن بألم معها يستغثن بالإمام، فيسهل الله عليهن الولادة).
كلمة تفوهتُ بها واطمأن قلبي وتيسرت ولادتي (ياعلي...ياعلي...ياعلي).
عيناي مغمضتان، فلا اعرف الوقت ولا يهمني معرفته، اسمع صوت بكاء صغيري الى جانبي وضحكات من حولي تتعالى، واشعر بالفرح قبل ان افتح عينيّ، تأتي الشمس عبر النافذة فوق جفوني وأحس بلسعها فوق وجهي تنقر باب جفوني فأفتحها، جسدي ممدد على سرير في المستشفى، أما أنا فكنت أطير فرحا واحلق في أحلامي عاليا، لم انسَ الذكرى المباركة، فهذا اليوم الثالث عشر من رجب يوم مولد أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع)، يحقق لي أمنيتي ويضع بين يديّ مولودي الصغير الذي حملته في أحشائي تسعة شهور بأيامها ولياليها، بحرها وبردها، بآمالها وآلامها.....
كان شعوري بالفرح لا يوصف، كنت فرحة أن ألد في هذا اليوم المتميز المبارك أكثر من فرحتي بسلامتي، مازلت أظن انها لم تكن محض صدفة أن أضع ولدي في يوم مولد الامام علي (ع)، وأن أسميه على إسمه ويكون له الشرف العظيم أن يولد في يوم كهذا، فأنا امنّي نفسي أن يكون مباركا كما العظماء الذين ولدوا في أيام ولادة الائمة المعصومين (ع)، أنا احتفل بيوم ميلاده مع ميلاد الإمام علي (ع) في كل عام، وفي هذا العام يكمل سنته الثامنة، وكلي أمل أن يبارك صاحب الذكرى ولدي ويجعله من شيعته الخلص، ويسدد خطاه كي يتسلق سلم النجاح والمجد، فالأشخاص الذين يولدون في مثل هذه الأيام المباركة، محظوظون، فالولادة بداية، والبداية الصحيحة كالأساس الصحيح، وهذا يقود الانسان الى بناء حياة ناجحة تعبر به الى الدار الأخرى بنجاح، مباركة هذه الذكرى العطرة، ذكرى ولادة النموذج الانساني العظيم، صاحب أشهر قول في المؤاخاة البشرية، (الناس صنفان، اما أخ لك في الدين، أو نظير لك الخَلْق)، إنه امير المؤمنين علي ابن ابي طالب عليه السلام.
اضف تعليق